” الفن هو المهمة الكبرى في الحياة، هو النعمة الكبرى، هو المعلم الأعظم، هو الفداء الأعظم ” فريديريك نيتشه.
على مر العصور، كان الفن وسيلة فعّالة للتأثير والتعبير عن المشاعر الإنسانية والأفكار الفلسفية العميقة، وأداة قوية لتشكيل الوعي الفردي والجمعي.
وفي ثقافتنا العربية الإسلامية نجد عددًا لا يستهان به من الفلاسفة الذين تحدثوا باقتضاب أو بإسهاب، حسب المقامات والأحوال، عن “تأثير المؤثرات” على الروح البشرية.

ومن بينهم يمكن أن نعرج على محيي الدين بن عربي، الذي كان يؤمن بأن الروح تتأثر بما تتعرض له من مؤثرات خارجية، سواء كانت هذه المؤثرات سموًا أو دنوًا.
ووفقًا لهذا الفهم الذي صاغه الشيخ الأكبر، فإن تعرض الإنسان بشكل مستمر للفن الهابط والمحتوى التافه يؤدي إلى انحدار روحه وتفكيره إلى مستويات دنيا، بينما يؤدي تعرضه للفن الرفيع إلى الرفع من شأنه وقدره وذوقه العام.
على مر القرون، لم يكن الفن لأجل الفن، أي لم يكن أداة خالصة للتأثير والتعبير عن الجمال، فقد استخدم أيضًا كأداة للسيطرة والتوجيه من قبل السلطات السياسية والأنظمة الحاكمة.
وفي زمننا الحالي، ومع التطور الهائل في وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال، أصبح الفن أكثر تأثيرًا من أي وقت مضى. لكن بدلًا من أن يكون الفن وسيلة لرفع مستوى الوعي والإلهام، تحول في كثير من الأحيان إلى أداة لتغييب العقول ونشر السطحية والتفاهة.
و تشير الظواهر الثقافية السائدة اليوم إلى تحول خطير في وظيفة الفن. فقد أصبح كثير من الفنون مكرسًا للتسلية الفارغة، مبتعدًا عن دوره التقليدي في التنوير والتثقيف.
ولعل هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مباشر لاستراتيجيات محكمة تهدف إلى توجيه الجماهير نحو اهتمامات سطحية، وبالتالي إبعادهم عن التفكير النقدي والمشاركة الفعالة في القضايا الاجتماعية والسياسية.
و يرتبط هذا التحول الخطير بظاهرة “تصنيع القبول” التي وصفها نعوم تشومسكي، حيث تُستخدم الثقافة الشعبية لإلهاء الجماهير وإبعادهم عن القضايا الحقيقية التي تؤثر على حياتهم.
وفي هذا السياق، يبرز دور الفنون التافهة مثل الغناء السطحي والرقص الماجن كوسائل لتغييب العقول وتوجيهها نحو قضايا عديمة القيمة، مما يسهم في صناعة “جيل من الضباع” يفتقر إلى القدرة على التفكير النقدي والتحليل.
إن هذا الاستغلال الخبيث للفن يطرح على الأقل سؤالين عميقين حول طبيعة العلاقة بين الفن والسياسة، ودور الفن في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات:
- هل يمكن للفن أن يكون وسيلة للتنوير في ظل هذه الظروف؟
- هل هناك أمل في استعادة دور الفن كأداة لرفع مستوى الوعي والإلهام؟
لطالما كانت الأنظمة السياسية واعية بالقوة الكامنة في الفن كوسيلة لتوجيه الأفكار والتحكم في الوعي الجمعي. ففي العصور القديمة، استخدمت السلطات الفن لبناء الرموز الدينية والسياسية التي تعزز من مكانتها وتدعم شرعيتها. ومع تطور المجتمعات وظهور الدولة الحديثة، استمر هذا الاستخدام ولكن بطرق أكثر تعقيدًا ودهاءً.
في كتاباته الفلسفية الغزيرة، يشير نعوم تشومسكي إلى مفهوم “تصنيع القبول”، وهي العملية التي يتم من خلالها توجيه الجماهير لقبول الأجندات السياسية والاقتصادية التي تخدم مصالح النخب. و يوضح تشومسكي كيف تُستخدم وسائل الإعلام والفن والثقافة الشعبية كأدوات لتشكيل تصورات الناس وتوجيه انتباههم بعيدًا عن القضايا الأساسية.
وهذا بالضبط ما يحدث عندما تُغمر المجتمعات بالفنون السطحية التي تركز على الترفيه الفارغ بدلاً من تحفيز الفكر النقدي.
ويتجلى هذا التحكم في الوعي الجمعي بوضوح في طبيعة المحتوى الذي يُقدَّم للجماهير اليوم: الأغاني التي تكرر نفس المواضيع التافهة، الأفلام التي تروج للعنف أو الاستهلاك السطحي، والبرامج التلفزيونية التي تركز على الفضائح والحياة الشخصية للمشاهير؛ و كلها تشكل لا محالة جزءًا من هذه الاستراتيجية.
إن هذه الأعمال الفنية تفتقر إلى العمق والإبداع، لكنها في الوقت نفسه تلقى رواجًا كبيرًا بسبب قدرتها على إشباع رغبات الجمهور في الترفيه السريع والابتعاد عن الواقع.
ومن الممكن أن نضع في هذا السياق ما أشار إليه الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو عندما تحدث عن “ثقافة الجماهير”، وهي تلك الثقافة التي تنتجها وسائل الإعلام بغرض الاستهلاك الجماعي السريع.
وهنا يرى إيكو أن هذه الثقافة تقتل الإبداع وتوجه الجمهور نحو اهتمامات سطحية بدلاً من تشجيعه على التفكير النقدي. إنه اذا تواطؤ بين السلطة ووسائل الإعلام، يهدف إلى تشكيل مجتمع غير قادر على التمييز بين ما هو مهم وما هو تافه.
وليس من المستغرب أن نجد أن الحكومات والأنظمة السياسية تفضل نشر هذا النوع من الفنون، لأنها تساعد في خلق بيئة من الاستقرار الظاهري، حيث يُصرف الجمهور عن التفكير في المشكلات الحقيقية التي تواجه المجتمع.
و بناء على هذا تصبح الفنون أدوات فعالة للسيطرة على الجماهير، حيث تخلق لديهم وهم الحرية والاختيار، بينما في الواقع يتم توجيههم نحو قضايا تافهة تسلبهم القدرة على التفكير النقدي والإبداعي.
ومع تطور التكنولوجيا وظهور الإعلام الحديث، أصبحت وسائل الإعلام أداة مركزية في تشكيل وعي الجماهير وتوجيهها. فالإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو تقديم الترفيه، بل تحول إلى آلة قوية يمكنها توجيه العقول وصياغة الرأي العام بطرق غير مباشرة وغير محسوسة في كثير من الأحيان.
ويمثل الإعلام الحديث امتدادًا لسياسة “تصنيع القبول” التي تحدث عنها تشومسكي، حيث يتم استخدامه لتقديم محتوى يشتت الانتباه عن القضايا الجوهرية ويمحو الفوارق بين الواقع والخيال.
وفي هذا الصدد يمكن أن نلاحظ أن البرامج الترفيهية والمسلسلات والأفلام التي تركز على موضوعات سطحية مثل الحياة الباذخة للنجوم أو الفضائح الشخصية للمشاهير، أصبحت جزءًا من هذا التوجه، باعتبار أن هذه البرامج لا تقدم فقط ترفيهًا فارغًا، بل تساهم في خلق صورة مشوهة للواقع، تجعل الجمهور غير قادر على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع.
إنها إذاً كارثة عظمى…
ولعل الأديب العالمي نجيب محفوظ كان قد أشار إليها فيما مضى عندما تحدث عن قمع العقل من خلال السيطرة على الأدب والفن.
وهذا ليس مستغربًا على مثقف عضوي من طينة العملاق نجيب محفوظ، فهذا الأخير كتب كثيرًا بالتزام عز نظيره عن قضايا المجتمع والإنسانية، وكان يدرك أن الأدب والفن يمكن أن يكونا وسيلتين لتحرير العقل من قيوده، ولكن عندما يتم استخدامهما لترويج التفاهة والسطحية، فإنهما يتحولان إلى أدوات لقمع الفكر وإعاقة التقدم.
وفي رأينا الشخصي فإن الأمر أشد تركيبًا وتعقيدًا مما نتصور. إن هذه السيطرة لا تتوقف عند حدود الترفيه، بل تمتد إلى الأخبار والمعلومات التي تقدم للجمهور.
فقد أصبحت وسائل الإعلام تقوم بدور مزدوج، حيث تقدم المعلومات بطريقة تجعل الجمهور يتقبلها دون تحليل أو نقد.
والنتيجة الطبيعية معروفة للأسف: خلق جمهور غير قادر على التفكير بشكل مستقل، حيث يتم تقديم المعلومات في إطار يهدف إلى توجيه الرأي العام بدلاً من تمكينه من التفكير الحر.
من هنا، بات الإعلام في الأزمنة الحديثة يهدم أكثر مما يبني، لأنه باختصار هو تلك القوة الجرافة التي تسهم في تشكيل جيل من الشباب غير المكترث بالقضايا الهامة، والذي يجد متعته في الترفيه الفارغ بدلاً من البحث عن المعرفة والتفكير الجاد في المستقبل.
إن الإعلام الحديث لم يعد إذاً مجرد وسيلة للتواصل، بل أصبح أداة فعالة لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيهه نحو اهتمامات سطحية، مما يعزز حالة البؤس والخواء الفكري والتغييب التي يتخبط فيها جل إخواننا اليوم.
ما الحل إذاً؟
ما العمل؟
في ظل هذا التغييب الثقافي والسيطرة الإعلامية، يبرز السؤال المهم: كيف يمكن استعادة الوعي الثقافي وبناء مجتمع قوي قائم على القيم الحقيقية؟
إن الإجابة واضحة ساطعة كالشمس في كبد السماء: من الضروري العودة إلى الجذور، إلى الفن الأصيل والثقافة التي تهتم بتعزيز القيم الإنسانية والروح النقدية.
وفي هذا السياق دعونا نستحضر ما يقوله المهدي المنجرة، أحد أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث:
“عندما يفقد الإنسان قدرته على التفكير الحر، يصبح أداة طيعة في أيدي من يملك زمام الأمور.”
إن هذه المقولة تلخص بشكل كبير الوضع الحالي، حيث تساهم الفنون التافهة في تقويض القدرة على التفكير الحر وتوجيه العقول نحو اهتمامات سطحية. لذا، فإنه من الحلول الممكنة والتي لا يمكن أن تؤخذ على عاتق الأفراد وحدهم، ولكنها مسؤولية الأنظمة والحكومات. أكرر: الحل يكمن في تعزيز وتشجيع الفنون التي تحفز التفكير وتطرح تساؤلات عميقة حول الوجود والإنسانية.
من هذا المنطلق، فإن الفن إما أن يكون قيمة أو لا يكون. وهنا لا يمكن إلا أن نستأنس بآراء الفلاسفة الكبار، ومن بينهم طه عبد الرحمن الذي ما فتئ يركز على أهمية القيم في الفن، مشيرًا إلى أن الفن الذي يفتقر إلى القيم هو شكل من أشكال العبودية الفكرية.
وبالمقابل، فإن الفن الأصيل هو تلك التعابير الذوقية-الروحية التي تحرر العقل وتشجع على الابتكار والتفكير المستقل.
إن الفن إذاً، حسب فيلسوفنا طه عبد الرحمن، لا يكتفي بالترفيه عن الجمهور، بل يسعى إلى التأثير فيه ورفع مستوى ذوقه ووعيه، وإلهامه ليصبح فردًا فاعلاً في مجتمعه.
هذا كلام جميل، لكن لا يمكن أن نحلق عاليًا في سماء الأحلام الوردية. لنغرس أرجلنا قليلاً في أرض الواقع…
إن العودة إلى الفنون الأصيلة ليس بالأمر الهين. إنه يتطلب دعمًا من المجتمع ومن الدولة على وجه الخصوص. فهذه الأخيرة مطالبة بالترويج لسياسات ثقافية تشجع على إنتاج الفن الذي يعكس القيم الحقيقية للمجتمع، مع تقديم بدائل للفنون السطحية التي تهيمن على المشهد الثقافي المعاصر.
إن هذا الدعم ليس ضربة خاطفة من العصا السحرية للحكومات التي تسيرنا. إنه يتأتى من خلال دعم الحكومات للفنون الأصيلة والمبتكرة عبر تقديم التمويل اللازم للمشاريع الثقافية الجادة، وتشجيع الفنانين على إنتاج أعمال تحمل رسالة إنسانية وفكرية.
لكن دعونا نكررها للمرة الألف: الدعم الحكومي وحده لا، ولن يكفي، بل يجب أن يرافقه تحفيز حقيقي للمجتمع المدني على تبني الفنون التي ترتقي بالفكر وتسمو بالروح. وهنا يمكن للمؤسسات التعليمية أن تلعب دورًا محوريًا في هذا الصدد، من خلال دمج التعليم الفني في المناهج الدراسية، وتحسيس الطلاب بأهمية الفن كوسيلة للوجود في العالم وكأداة أساسية للتعبير عن الذات.
إن تعزيز هذا الوعي يتطلب، في رأينا المتواضع، أيضًا تطوير نقد فني جاد، يعمل على توجيه الجمهور نحو الفنون التي تستحق التقدير، ويكشف في الوقت نفسه عن أوجه القصور في الفنون التافهة.
وربما من الأهمية بمكان أن يكون هذا النوع من النقد مستقلاً عن الضغوط السياسية والاقتصادية، وأن يسعى بشكل نزيه لتقييم الأعمال الفنية بناءً على معايير الإبداع والقيم الإنسانية المتعارف عليها.
في ختام هذا المقال، وبعد استعراضنا للعلاقة المعقدة بين الفن والسياسة، وتأثير الإعلام الحديث على تشكيل الوعي الجمعي، والحلول الممكنة لاستعادة الدور الأصيل للفن في المجتمع، نجد أن الطريق نحو جيل جديد من المبدعين يتطلب جهدًا مشتركًا ومتكاملًا من جميع الأطراف المعنية.
إن جيل “الضباع” الذي أفرزته الثقافة السطحية والتافهة ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة لظروف اجتماعية وثقافية يمكن تغييرها من خلال التحرك الجاد نحو استعادة القيم الأصيلة في الفن والثقافة.
إن هذا التحرك يجب أن يبدأ من إعادة تعريف دور الفن في المجتمع، من كونه ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو أيضًا وسيلة أساسية للتنوير والتعبير عن القضايا الجوهرية للفرد و الأمة.