ترتبط البيعة في المغرب بنظام إمارة المؤمنين ارتباطا وثيقا ، هذا الأخير الذي يشير إلى الجانب السياسي ، و هو الإمارة ، بينما الأول يحيل على الجانب الديني ، الذي هو البيعة .كما يتم من خلال هذا النظام التعاقدي تبادل الحقوق والواجبات من خلال عقد البيعة.
و لنظام إمارة المؤمنين في المغرب مرجعية دينية وتاريخية ومنتج لأثره السياسي ، فالمغاربة عندما يتحدثون عن البيعة فإنهم يثحدتون عن إمارة المؤمنين ، والأمور هنا مرتبطة وليست منفصلة ومستقلة.
وملامستنا للموضوع ، تجعلنا نتطرق إلى مفهومين أساسيين ذوا دلالات عميقة في النظام السياسي والدستوري المغربي ، وكيف شكلت القاعدة الدستورية شكلا حديثا وعصريا للنشاط السياسي؟ ومدى نجاعة بلورة القواعد الدستورية في وثيقة مكتوبة ، تشكل الإطار المرجعي الضابط للممارسة السياسية؟ وذلك بالحد من مجال السلطة وضبط الصراعات والنزاعات عبر الشرعية ( البيعة – إمارة المؤمنين ). مادام أنه يبلور آليات الوصول إلى السلطة داخل الدولة (رئيس الدولة – رئيس الحكومة).
والبيعة حسب العلامة علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية:
هي ذلك العقد الرابط بين الملك والشعب ، يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية ، وهي رمز للنظام السياسي في المغرب المنبتق من الأصول الإسلامية والقائم في عقده بين طرفين هما السلطان و “الرعية” ، وذلك بعد مباركة أهل الحل والعقد ( العلماء ) لهذا الإتفاق.
و بالرجوع إلى مختلف المصادر التي تناولت مفهوم البيعة ، نجدها تنصب كلها من المعاقدة والمعاهدة التي نظمها الإسلام ، وذكرت في عدة آيات قرآنية للتأكيد على أهميتها وأهمية العهد الذي تتضمنه، قال تعالى : ” ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه فسنوتيه أجرأ عظيما.”
فالبيعة إذن ، هي أن الملك باعتباره أمير المؤمنين ، يتعاقد ويعاهد الأمة على أن يحكم بالحق والعدل ، وان يرعى أحكام الشريعة ، ويصون مبادئ الدين ، وان يوفر للمواطن حقوقه الأساسية ، وحرياته وحماية متطلبات عيشه وتأمينها.
في المقابل يقوم المواطن نيابة عن ذاته بالتعبير عن طاعة الملك ، ويتعهد بنصرته في حماية مصالح الأمة والدفاع عن حقوقها وثوابتها، و هذا المفهوم يتماشى والدستور المغربي عبر تطوره التاريخي والمتمثل في المادة 19 منه .
وإمارة المؤمنين ليست بعدا مفاهيمي ، مرتبط بالحكم في المغرب فحسب ، بل هي استراتيجية مفاهيمية وتاريخية متعددة الأبعاد ، يؤطرها التاريخي والديني والمجتمعي عبر توارث منسجم مع المجتمع المغربي ، الذي ينشد الوحدة باعتباره نسيج متعدد المشارب الانتمائية التي لا يوحدها اصل عرقي ، فالهوية المغربية ، هوية أمازيغية وعربية و صحراوية و أندلسية وإفريقية دون أن ننسى المكون اليهودي الذي هو جزء من الهوية الوطنية . كل هذه المكونات تنصهر في تعاضد عرقي وتاريخي تحت وحدة تسمى المفرد بصيغة الجمع تحت راية إمارة المؤمنين .
إنه توجه مجتمعي أجمعت الأمة بمقاصدها وتجلياتها بناء مصالحة مفاهيمية نسجها الماضي لتثمر في حاضر يعد التعدد مكسبا مجتمعيا لدولة المغرب.
وهذا ما جاء به دستور 2011 وخاصة في ديباجته ، بأن المملكة المغربية دولة اسلامية ذات سيادة كاملة، ليضيف الفصل 3 منه على أن الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية.
ويؤكد كدلك الفصل 41 منه بأن الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.
فهذا الإطار العام للدستور المجسد لعقد البيعة يحدد شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي ونمط الحكم والتي هي :”أن الدولة المغربية ذات طبيعة دينية يتولى تدبير شؤونها أمير المؤمنين. “
كما أن دستور المملكة ، يوطد معالم دولة مدنية فيها مواطنون أحرار متساوون في الحقوق والحريات ، ويشكلون مصدر السلطات التي يفوضونها لمن يمارسونها بالنيابة عنهم ، في إطار نظام ملكية دستورية و ديمقراطية واجتماعية و برلمانية. و ينص الفصل 2 من دستور 2011على أن:”السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها .”
فطبيعة الدولة المغربية تقوم على مرجعيتين ، مرجعية تاريخية ، و أخرى دينية محظة ، والتي تتشكل في مبدأ البيعة ، وعدم الفصل بين السلط على مستوى الملك وعدم وجود وسائط ما بين الملك والشعب ، ودون المساس بطبيعة وقدسية إمارة المؤمنين ، التي تتجلى في سمو هذه المؤسسة على الدولة نفسها وتتجسد اكثر في التحكيم الملكي الذي يباشره الملك بين كافة المؤسسات.
ويمكن في هذا الإطار الوقوف على السمات الأساسية التي تميز النظام السياسي المغربي وتكرس سمو المؤسسة الملكية في اطار:
الأول : وجود ملكية حاكمة تقوم على أساس إمارة المؤمنين كتعبير على نظرية الخلافة والبيعة المتجدرة في التاريخ الإسلامي.
ويترتب على هذه الأبعاد الدينية للملكية ، وحدة السلطة وشخصيتها وإلزام باقي الفاعلين السياسيين بالقول والاعتراف باستمرارية البيعة والولاء لإمارة المؤمنين.
الثاني : تكريس المعيار الدستوري والقانوني:
فالدستور المغربي يؤكد على أن الملك أمير المؤمنين ، وان شخصه مقدس وبأنه يحظى بواجب التوقير والإحترام .
كما يخول له إختصاصات تشريعية
وتنفيذية ودبلوماسية ،وبذلك يكرس الدستور سمو المؤسسة الملكية.
فهذه القواعد تجعل من مؤسسة إمارة المؤمنين ضرورة لسير الدولة وضمان استقرارها واستمرارها على المستوى الزماني والمكاني.
ويبقى داءيما التساؤل مطروحا حول جدلية البيعة وإمارة المؤمنين ، وحول دورها في تفسير تاريخ المغرب ، خصوصا ادأن امتداداتها تهم المغرب المعاصر ، الذي يسعى جاهدا إلى الحفاظ على الأصول والجدور وعدم التفريط فيها ، و محاولة مسايرة منطق التطور والتجديد ، دون المساس بتوابت ومقدسات الوطن .
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام و باحث في قضايا الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان.