حار هذا القلم وهو يحاول خط هذه السطور حول أمر يعتقد من جهة أنه شخصي، ومن جهة أخرى أنه، على أكبر تقدير، شأن مؤسساتي داخلي خاص بشركة نشر متواضعة. ولكن من جهة ثالثة، ألح عليّ العقل والصدر في أن أنساق مع ما أعتقد أنه واجب على هذا العبد الضعيف لله أن يقوم به عرفانا وتقديرا، حتى وإن كان الواجب أمام القراء الكرام هو أن أدلي بالرأي في أمور الشأن العام.
وربّما خفت هذه الحيرة، بل حسمت أمري، بما أنني أكتب الآن في ما هالني الخوض فيه، لسبب وجيه آخر وهو أن واجب العرفان ليس شأنا خاصا بي، ولكنه شأن القراء أيضا، فمعذرة إذا تكلمت باسمكم، ومعذرة إذا لم أجد الكلمات التي توفي هذه السيدة الفاضلة حقها، وهي التي وهبت عمرًا كاملا لـ«الأيام».
عندما جلست أمامي نجاة أبو الحبيب قبل أيام، كنا نتبادل نفس نظرات الاحترام الكبير ونحن نتحدث عن الصحافة والحياة، كما فعلنا قبل 29 سنة بالتمام والكمال، ولكن، هذه المرّة كان الأمر مختلفا. نجاة تقاعدت بحكم القانون!
لابد أن كلينا كان يضمر قوة هذه اللحظات، وكنا نمارس التمويه الجميل لنخفف من شدة هذه النهاية الرمزية لعلاقة مهنية سامية قد لا تتكرر في نظري.
الناس يتقاعدون يوميّا، وآخرون يلتحقون، ولكن في «الأيام» كان هناك عنصران مختلفان عن باقي من يتقاعد أو يغادر، الأول هو أنه منذ بداية هذه المؤسسة كان هذا أول تقاعد لأحد المساهمين في تأسيسها، والثاني كان هو نجاة أبو الحبيب.
نجاة ملكة الظل بامتياز، نجاة عنوان للاستقامة، نجاة لن تتكرر. هكذا فكرت دائما، ولكن، في هذه الأيام، كنت أسترجع تاريخنا ومعه معنى الحياة، المهنية والإنسانية. وما سأسرده هنا من شذرات من هذه النجاة التي لم تسع يوما لا لنجومية ولا لمغنم، والتي ظلت لمدة أربعين سنة تقرأ كتابا كل ليلة وإلى الآن، ما هو إلا اليسير الذي يسمح به هذا الحيز، أما والله إن تقديري لا يمكن أن أفصح عنه كاملا إلا في مجلدات.
في سنة 1994، كانت نجاة حاملة لشهادة الإجازة، والتحقت بأول فوج لأول معهد خاص بالصحافة في الدار البيضاء، كنت أدرس فيه الصحافة المكتوبة. كنا في نفس السن، وكان من الطالبات والطلبة من يصغر أستاذه أو يكبره، هذا ليس مهما، لأنني كنت دائما مقتنعا بأن تدريس الصحافة هو تبادل للخبرة لا أقل ولا أكثر. وقد اعتدت لتصنيف الطلبة منذ البداية أن أطلب منهم الكتابة عن موضوع، فالأسلوب قبل التقنيات يكون بصمة في جزء منها موهبة. أول ربورتاج لنجاة كان قد صنفها عندي في المرتبة الأولى، وشاءت الصدف أن أغادر جريدة «الاتحاد الاشتراكي» وألتحق بأسبوعية «مغرب اليوم» لصاحبها عبد الهادي العلمي سنة 1996، وهي السنة التي تخرجت فيها نجاة. ولما كلفت برئاسة تحرير الجريدة طلبت من نجاة الالتحاق وكان في الأسبوعية أسماء وازنة آنذاك، منها محمد أوجار وحسن عبد الخالق ونعيم كمال وحكيم بديع ومنية البوستاني ومحمد بلفضيل وعلي مبارك وعبد الرحيم تفنوت وضرغام مسروجة وسمير شوقي وغيرهم، وكان المدير العام الإداري والتجاري للجريدة آنذاك هو السي محمد الشرعي مالك مجموعة ميد راديو الآن. وبهذا تكون السيدة الفاضلة نجاة أبو الحبيب هي أقدم من رافق هذا العبد الضعيف لله في هذا المسار المهني والإنساني الطويل والمليء بالمطبات إلى آخر رمق، إلى أن أصدر التقاعد حكمه، وهي سنة الحياة.
لم تدم تجربة «مغرب اليوم» طويلا، وقررنا في مجموعة أن نبقى كفريق لنخوض تجربة جديدة، وهكذا أسسنا «الصحيفة» سنة 1998 التي احتضنتها آنذاك مؤسسة «لوجورنال». كنت ما أزال أدرّس في المعهد، وفي فوجين بعد نجاة، كان هناك شباب لمست فيهم نفس الموهبة التي لمستها في نجاة قبلهم، فألحقناهم بالتجربة، ومنهم أنس مزور مرية مكريم وهشام روزاق وإدريس المودن وغيرهم، وفيما كان الشباب بحماسهم يقاتلون يوميا من أجل التألق، كانت نجاة تحت سلم كل واحد منهم تسنده، ولا تطلب شيئا إلا الظل. منذ هذا الزمن الغابر الذي أتحدث عنه ونجاة زاهدة في شيئين على الأقل وهما المال والنجومية، وعدوة شرسة لعملة شائعة وهي الخيانة و الدسيسة.
غادرنا «الصحيفة» جميعنا في ظروف صعبة، وأسسنا «الأيام» سنة 2001، وهنا التحق زملاء آخرون، وأصبحت نجاة تجمع بين سكرتارية التحرير والمسؤولية عن الصفحات الفنية. في اللقاء ما قبل الأخير بيننا هذه الأيام، قالت لي نجاة لأول مرّة “إن مهمة سكرتارية التحرير قتلتني”، وهي تبتسم بالطبع. هذه مهمة الطباخ الكبير الذي لا يراه الزبناء الأنيقون، إنها مهمة جندي الخفاء، وكانت نجاة جندية خفاء بامتياز، ورمزا للكفاح من أجل القيم التي ظلت على مرّ السنين تتهاوى أمامنا، ونتحدث عنها سنة بعد أخرى، ونحن نحس أن المهنة تنزل من قمم المجد إلى سفوح الابتذال.
هذا بالضبط ما جعل نجاة تنفر من التكنولوجيا. رفضت رفضا قاطعا إلى آخر يوم، ورغم جميع إغراءاتي أن يكون عندها «واتساب» أو أن تدخل أمواج مواقع التواصل الاجتماعي. لقد ظلت ورقية إلى آخر رمق، ولكن الذي قتل فيها تلك الشعلة التي رافقتنا لمدة عقدين ونيف هو هذا الحضيض الذي نزل إليه جزء كبير من مهنة كانت عندها كمحراب عبادة وماتزال، في حدود ما تعتقد أنه بقي ناجيا من هذا التسونامي التفاهاتي الجارف.
حياة مؤسسة هي كحياة أسرة تماما، ولذلك تسمى في الصحافة أسرة التحرير. حصلت نزاعات شغل، وخصامات، وتوترات داخلية لمدة عشرين سنة، غادر شباب، وهناك من أصبحت له جرائده، وعموما لم يخرج أي أحد من «الأيام» إلا وظل كريما مرفوع الرأس. ولكن نجاة ظلت بطواعية واختيار وفيّة لبيتها الأول، وظلت الحكيمة، والوسيطة، ولكنها أبداً لم تكن تطلب شيئا إلا للآخرين، أما لنفسها فلا. حتى أن أقول لها هذا الكلام الذي أتجرأ على كتابته الآن، كانت تتضايق منه، وظلت وحيدة لا يربطها بهذه الحياة إلا عشقها للأدب والفن ولصحيفتها ولوالدتها التي ربطتها بها علاقة خارقة إلى أن فارقت الحياة.
لم أعتقد أن نجاة ستستطيع أن تصمد بعد وفاة والدتها، ولكنها بعد أسبوع من الرحيل، جلسنا لتقول لي: والله حدثت معي معجزة، وها أنا أمامك ناجية من هول الرحيل. لقد كان ارتباطها بالأهم في الحياة فلسفيا وليس ماديا سطحيا، ولذلك كانت فريدة، لا يشبهها أحد.
نجاة اشتغلت في مجال، في جزء منه موبوء بالرشاوى والحفلات والسهرات مقابل المقالات المدفوعة الأجر، ولكنها ظلت لمدة ثلاثة عقود نظيفة، ألف في المائة نظيفة. اسألوا كل فنان حقيقي أو من يدعي ذلك عن نجاة، ستجدونهم يختلفون على كل شيء إلا على هذه الصفحة البيضاء الناصعة الطاهرة النقية التي كتبت فيها أبو الحبيب أجمل عبارات العطاء والصدق والوفاء والسمو وعزة النفس والشرف.
اقترحت على نجاة أن تبقى، فقالت لي إن اقتراحك بعثر ثمانية أشهر من أوراق رتبتها بصعوبة حتى أخرج وأعيش بصفاء. وبعد تردد لأيام، جلسنا لتقول إن أجمل ما قرأت مؤخرا هو ما نسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة بالصمت».
باسم القراء، وأسرتك في «الأيام»، تقبلي منا هذه الكلمات الصادقة، وأقواها لم نقله لأن القلم لا يسعف. تقبلي منا هذا العرفان وهذا الامتنان، وشكرا لما علمتني أنا شخصيّا، شكرا على كل شيء، فنحن مدينون لك بكل شيء.