إذا كانت مهمة الإعلام التي خلق من أجلها هي التوعية والتثقيف والإخبار ونشر المعلومات بكل مصداقية ونزاهة فإن هذه المهمة باتت مهددة بالإندثار بل بالإنقراض بسبب اختراق هذا المجال من طرف خصوم هذه المهنة النبيلة التي لطالما ضحت فيها الكلمة الصادقة والحرة الأبية بمستقبل روادها ورموزها لدرجة تأذت فيها العائلات الكريمة لا لشيء إلا لأن أبناءها مبدعون وأحرار شرفاء .
أتى زمن نجح فيه الإعلام عبر العالم في جعل أغبياء يتصدرون المشهد وأصبحوا بين ليلة وضحاها مشاهير وخبراء فارغين تحلق حولهم مجموعة من التافهين لتجعل منهم أيقونات، في عهد شكلت فيه التفاهة منظومة حياة لأن الطيور على أشكالها تقع يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو”يدعم التافهون بعضهم بعضا فيرفع كل منهم الآخر”.
زمان عندما كان الإعلامي المثقف يقذف أو يسب في عرضه تقام الدنيا ولا تقعد لإنصافه ومؤازرته إلى أن يعرف الآخر التافه حدوده وتعاد تربيته “باش يحشم ويدخل سوق راسو”وقد يطالب بعرض نفسه على ذوي الإختصاص لمعالجته لأنه حسب مخيلته “الواسعة “و”ذكائه المفرط” وجشعه المادي وفقره الروحاني بلغ الذروة وصعد أعلى قمة ليحقق إنجازا عالميا و تاريخيا لم يسبق له مثيل، متسلحا بمهاراته الخارقة في التهريج والصخب وعدم الحياء والتلاعب والمس بشرف وأعراض الناس عبر منصة إعلامية مباشرة.
وهنا أتذكر حكاية أزلية تنطبق على هذا الشخص “العبقري والمبدع” في أعراض الناس وهي حكاية الأسد الذي منح للحمار فرصة إشباعه ضربا أمام أقرانه من الحمير والأسد يهرب “خائفا”، حتى إذا ما دخلا العرين، ضحك ملك الغابة وعلامات النصر والبطولة على محياه ثم قال للجميع: “حكمتم علي أن آتي به ميتا لكنني فضلت أن أقدمه لكم حيا يرزق”، وكما هو معروف فالأسود لا تأكل ” الجيفة” ، وتبقى الأسود أسودا والحمير…… !!
هي وسائل إعلام حديثة وخطيرة كانت صغيرة وكبرت لتخرج من بؤرتها بشكل ناعم وتنقض على العقول بشكل يومي ومستمر، تمرر عبر منابرها خطابات غير منتجة ولا تمت للواقع بأية صلة، لا تكف عن عرض الشخصيات التافهة وذات اللسان السليط والترويج لها بأنها فعاليات مهمة تصبح محور الحديث وقدوة في أعين الصغار.
فمن منا لا يرى أو يعيش حالة من الإغتراب العائلي داخل الأسرة، كل واحد منزو في ركن من أركان البهو أو غرفة خاصة حاملا جهازا صغيرا او متوسط الحجم باهظ الثمن أو رخيصا حسب مستوى الشخص المادي، يتفحص بشراهة وحتى بدون وعي صفحات الإنستغرام أو الواتساب أو مواضيع تافهة على اليوتوب طفت على الساحة وصاغت المزاج الفكري والعقلي الجماعي كفضائح رموز السياسة أو الفن والرياضة….، “مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، أي تحويلهم إلى رموز. صار يمكن لأية جميلة بلهاء أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين عبر عدة منصات…لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان” يقول الدكتور آلان دونو.
وفي الآونة الأخيرة أعرب مجموعة من الفاعلين في مجالات الإعلام والثقافة والفن من خلال عريضة ” توقفوا عن تحويل التفاهات إلى قدوة ونجوم”عن امتعاضهم إزاء ظاهرة التفاهة التي يتنافس فيها أصحاب المحتويات المنحطة بهدف رفع عدد المشاهدات وملايين اللايكات والحصول على عوائد مالية خيالية بدون رقيب ولا حسيب.
وبخصوص هذه العريضة أشار الإعلامي والكاتب الدكتور جمال المحافظ إلى التجاوب الواسع الذي لقيته منذ إطلاقها مؤخرا واحتضانها لجمهور واسع من الصحافيين والفاعلين الثقافيين ومن وسائل الإعلام موضحا أن هناك العديد من الإقتراحات قدمت لإسناد ولإثراء هذه المبادرة وتطويرها.
كما عبر عن اعتقاده الراسخ بأنها ستفتح ولا شك أفقا جديدا ونوعيا في “جبهة مقاومة” التفاهة والجهل والتضليل التي مع الأسف تعج بها منصات التواصل.
وقال جمال المحافظ صاحب مؤلف ” الإعلام في زمن اللايقين ” في هذا الصدد “من المفروض حماية منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائط التبادل الرقمي، لكون ذلك يعتبر من بين الأركان الأساسيّة للمجتمع الديمقراطي.”
يبدو أن منظومة التفاهة تعتبر استراتيجية عالمية محبكة ومنظمة تروم تفكيك القيم والمبادئ الإنسانية وتتقن لعبة المنفعة والابتذال وتخلق محيطات وبيئات حيث يهمش الفن الراقي والأدب السامي والذوق الرفيع لتحل الغوغاء والبهرجة وتقاوم الرغبة في الإبداع وتحنط العقول الطامحة إلى الإبتكار والتجديد وتغلق الطرق أمام كل محاولات التقدم والتغيير وهنا أستحضر قول الروائي الإسباني كارلوس زافون “إن العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف بل الإبتذال والإفراط بالتفاهة سيحول العالم إلى نكتة سخيفة”