يعرف ميناء الحسيمة تراجعا كبيرا في مفرغات السردين، الذي كان إلى وقت قريب يملأ أرصفته، وينعش مداخيل المكتب الوطني للصيد البحري، حيث عادة ما كانت مراكب صيد الأسماك السطحية تعود من رحلاتها لصيد السردين التي قد تصل لرحلتين على الأقل في الليلة الواحدة، وهي محملة بأطنان من السمك الطري المتنوع، غير أنه اليوم أصبحت رحلات الصيد الخاصة بهذا الصنف من المراكب كلها بيضاء، أو لا تحصل سوى على كميات قليلة من السمك السطحي عبارة عن ” سردينتة ” أو ما يصطلح عليه بلغة البحارة ” الولد “.
وطفت على السطح أزمة هذا القطاع الذي كان في وقت مضى يساهم بأزيد من 75 بالمائة من المفرغات السمكية، التي تباع بأسواق المكتب الوطني للصيد، ويشغل حوالي 1000 عامل، بالإضافة لفرص الشغل المكملة التي يوفرها داخل الميناء، والآن أصبحت هذه الدينامية الاقتصادية تروى وتحكى بين البحارة والأهالي وتدخل في خانة الذكريات الجميلة التي احتفظت بها الذاكرة الجماعية حين كانت الحسيمة ثاني ميناء بالمغرب في صيد السردين بعد آسفي، وسمك الأنشوبة ” اللذيذ ” الذي كان يصطاد من بوابة الميناء لوفرته.
شح المصايد التقليدية التي تقصدها مراكب الصيد الساحلي المتخصصة في صيد الأسماك السطحية من السردين، انعكس سلبيا على كل مكونات القطاع خاصة البحارة والمجهزين، حيث عجز ميناء الحسيمة عن احتضان مراكبه، لتبدأ الهجرة القسرية، التي زاد من حدتها الدلفين الكبير ( النيكرو )، بعد أن عجز المجهزون والبحارة على مسايرة التكاليف المرتفعة والخسائر التي يخلفها على شباك الصيد، حيث يمزقها تمزيقا، ورغم أن فترة الصيف تعرف وفرة في السردين بمصايد الحسيمة، فإنه ولحدود هذه الأيام لم تسجل أية مؤشرات على وفرة الأسماك السطحية بمصايدها التقليدية، حيث يسجل البحارة وجود مخزون من سمك السردين الصغير ” سردينتة ” على طول السواحل الرابطة بين الحسيمة والجبهة غربا والناظور شرقا، واختفى السردين الكبير ( القابل للتسويق والتصدير ) الذي اشتهرت به المنطقة، وظل لوقت طويل مضربا للأمثال بين ” سردين ” الموانئ الأخرى الذي يتغلب عليها بمذاقه وطراوته، بشكل يطرح تساؤلات أصبحت الآن أكبر جدية لتحديد الأسباب وقراءة النتائج التي أصبحت ظاهرة ولا يمكن إخفاؤها، وهو أن سردين الحسيمة بصفة خاصة والسردين بالبحر الأبيض المتوسط بصفة عامة، قد تراجع بشكل كبير وبأكثر من النصف خلال السنوات الأخيرة، كما بات واضحا أيضا أن خلو مصايد الحسيمة التقليدية من السردين وبالمقابل وجود “سردينتة ” بكثرة دليل آخر على وجود خلل في الدورة البيولوجية لهذا النوع، حيث يتم اصطياده قبل أن يكتمل، وأثناء فترة تكاثره ونموه، مما حرم المنطقة من هذه الثروة التي كانت وإلى وقت قريب تشكل الغذاء رقم واحد للأسر بالريف، وكذلك بالنسبة للسواح الوافدين خاصة خلال فصل الصيف، الذي يستكمل فيه السردين نموه ويكثر شيه في كل المطاعم والأسواق، بل حتى بالشواطئ وفي الشوارع كذلك.
وكانت إطارات نقابية وجمعوية بميناء الحسيمة، وفي تقارير سابقة قد رجحت شح مخزون السردين وتراجع مفرغاته، للتخريب الذي تتعرض له المصايد التقليدية، نتيجة الصيد الجائر الذي تستعمل خلاله مختلف وسائل الفتك بالأسماك ومنها الصيد بالمتفجرات الذي لازال مستمرا بساحلي الناظور والدريوش وتدمير البيئة البحرية والمعالم الإيكولوجية للساحل المتوسطي المتميز بتنوعه البيولوجي، وكذا صيد الأسماك الصغيرة ويرقاتها بالسواحل الشرقية للحسيمة، وذلك دون حسيب ولا رقيب نهارا جهارا. ويؤدي الصيد الجائر الذي تعرفه مصايد الأسماك السطحية بإقليم الدريوش والحسيمة والناظور، إلى خسائر فادحة في الاقتصاد، وكذلك البيئة البحرية الهشة أصلا.
أين اختفى سردين الحسيمة ؟؟؟
هو سؤال يلخص واقع الأزمة داخل ميناء الحسيمة، فالسردين أصبح مفقودا، ورغم التقارير الرسمية المعدة في وقت سابق والمطمئنة حول مخزون الأسماك السطحية، فإن استمرار السردين في الاختفاء في وقت من المفروض طبيعيا أن يكون وفيرا، مؤشر على خلل بيولوجي في الدورة الطبيعية لهذا السمك، الذي يعاني من ضغط كبير، نتيجة الصيد المشروع والغير المشروع، حيث غياب أي راحة بيولوجية تسمح له باستكمال وتجديد دورة حياته الطبيعية. فلا أحد يقدم أجوبة كافية حول الحالة هذه التي أضحى عليها ميناء الحسيمة، وليس أحسن حال منه ميناء الناظور، حيث نقص المصطادات رغم رحلات الصيد المتكررة، مع وجود مكثف ” للنيكرو “، الذي أصبح يغزو سواحل المنطقة، هذه الحالة أدت إلى شبه إفلاس بقطاع صيد السردين، كما تسببت في هجرة المراكب، وبيعها خارج الحسيمة، علاوة على نقص الاستثمارات بالقطاع، نتيجة غياب المردودية، ولم تفلح كل أشكال الدعم الذي وجهته الدولة لهذا القطاع في انتشاله من معاناته، التي يوجد على رأسها تراجع المصطادات، وكثرة المصاريف لتغطية الخسائر التي يسببها الدلفين الكبير ” النيكرو “. ومع استمرار السردين في الاختفاء يستمر الضغط على ” السردين ” الصغير الذي يتم صيده وبيعه بشكل عادي، ما قد يتسبب في أزمة محتملة.
الناشط في جمعية التدبير المندمج للموارد ” AGIR ” عبد الواحد قيقاي وفي تصريح خص به موقع التبريس، أوضح أن مخزون السردين عان منذ الاستعمار من استنزاف مفرط نتيجة ضعف القوانين وعدم تطبيق المتوفر منها، وكان لسان حال المهنيين يقول ” أن هذه الثروة لن تنضب أبدا “، مسجلا بأسف استمرار هذا النوع من التفكير وسط المهنيين، في الوقت الذي يجب فيه ترشيد استغلال الثروة السمكية وحمايتها بعد المؤشرات السلبية المسجلة. وأضاف قيقاي أن الوسط البحري يعرف منذ مدة عدم توازن في مجتمعات الأسماك بعد ظهور ” التون ” بقوة في سواحل المنطقة، الأخير الذي يتغذى على السردين وباقي الأسماك السطحية، مشيرا إلى أن وجود كوطا تحدد صيده قد أدى لتكاثره بشكل كبير، وأصبح غذاءه يتقاطع مع نشاط الصيادين، واقترح الناشط كحل لذلك السماح بصيده وتوجيه استهلاكه للأسواق الداخلية، وذلك للتقليص من أعداده وإعادة التوازن للمكونات البحرية الأساسية عبر توفير الشروط المناسبة للسردين لاستكمال دورته البيولوجية الطبيعية.
وحسب تقرير لباحثين فى المعهد الفرنسي لعلوم المحيطات Ifremer ف ” سيصبح سمك السردين أصغر ويصل إلى الثلثين عما كان عليه قبل 12 عامًا، لأن المياه الدافئة الناتجة عن تغير المناخ تقتل العوالق التي تتغذى عليها، حيث يدرس الباحثون حالة السردين في البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2008، بعد أن لفت الصيادون انتباههم إلى الانكماش.
ووفقا للتقرير، فقد تقلص سردين البحر المتوسط من متوسط طوله من 5.1 بوصة (13 سم) إلى 3.9 بوصة (10 سم) في العام الماضي، واستبعد تحليل الفريق الافتراس والإفراط فى صيد الأسماك والمرض كسبب لهذه التغييرات في سكان السردين، مع تغير المناخ السبب المحتمل. ويتغذى السردين من العوالق المجهرية، وهو مصدر غذائي نما بطريقة أقل صحة مع ارتفاع درجات حرارة سطح البحر. وأوضح الباحثون أن المشكلة تكمن في أن العناصر الغذائية التي تغذي العوالق لا ترتفع من المياه العميقة الباردة كما كانت في السابق. ولاحظ الباحثون أيضا أنه إلى جانب تقليص حجمها، يبدو أن تناقص مخزونات الأغذية يقلل من عمر السردين أيضا، الذي انخفض من ثلاث سنوات منذ عقد مضى إلى عام واحد فقط اليوم.
وأكدت تقارير سابقة لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، أن مخزونات الأسماك التي تعرضت للاستغلال المفرط انخفضت بنسبة 10 في المائة، غير أن تقرير حالة مصايد أسماك البحر المتوسط يحذر من أنه يلزم بذل المزيد من الجهود لضمان استدامة مخزونات الأسماك على المدى الطويل.
ويتطلب هذا المزيد من الدعم لقطاع الصيد الصغير النطاق الذي يوظف معظم الصيادين ويتسبب في أضرار بيئية أقل، وإدخال المزيد من التدابير الجذرية مثل الحد بشكل كبير من الصيد أو تحديد مناطق محظورة لصيد الأسماك (مناطق تكون أنشطة الصيد فيها منظمة).