في رحاب التاريخ الإسلامي، يبرز اسم مسلمة بن عبد الملك كأحد أعمدة البيت المرواني وقادة الدولة الأموية. لم يسعَ هذا الفارس الشجاع إلى العرش، ولكنه كان سيفاً مسلولاً للدولة الأموية، يقود الجيوش نحو الانتصارات بلا كلل.
خلال فترة حياته، تولى مسلمة العديد من المهام العسكرية الصعبة، وخاصة ضد البيزنطيين، حيث كانت حملاته تمثل العمود الفقري لهيمنة الدولة الأموية على مناطق الحدود.
من آثار الخالدين، نتعرف على رجل كان العمود الفقري للدولة الأموية، وسقطت بعد سنوات من وفاته. يجهل سيرته كثيرون.
1عبدالملك بن مروان يوصي بابنه مسلمة
من على فراش موته، وبينما كان مسلمة ابنه يقود جيوش المسلمين في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية في بلاد الأناضول، أوصى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أبناءه أن يسمعوا لأخيهم مسلمة، وألّا يفرطوا فيه، ربما كانت هذه الوصيّة لأنّ أمّ مسلمة بن عبدالملك كانت جارية،
بينما كان إخوته في سلّم الخلافة أبناء سيدات أحرار، ولكنّ عبدالملك كان مدركاً لبعدٍ آخر، فالمهارة التي يمتلكها مسلمة لا يمتلكها إخوته بنفس الكفاءة أبداً: قيادة الجيوش الضخمة والدخول في المعارك، والانتصار فيها.
بعدما انتشر الإسلام، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب اتسعت رقعة فتوحات الدولة الإسلامية، فأسقط المسلمون الإمبراطورية الساسانية الفارسية، وأخذوا بلاد الشام ومصر من الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت شمال وجنوب الأناضول مناطق حدودية بين البلدين، ومناطق احتكاك دائمة.
وهكذا كانت الإمبراطورية البيزنطية هي العدوّ اللدود للدولة الأمويّة وعاصمتها دمشق، ولذلك فإنّ الحروب بين الدول الإسلامية المتعاقبة والدولة البيزنطية لم تتوقّف عبر القرون، وكذلك محاولات فتح القسطنطينية -عاصمة البيزنطيين- لم تتوقّف منذ احتكاك الدولة الإسلامية بالدولة البيزنطية، وحتّى فتحها عام 1453 على يد محمد الفاتح.
انطلق مسلمة في شبابه مع عمّه محمد بن مروان والي بلاد أرمينيا وأذربيجان، ومن هناك كانت بدايته، وخلال إحدى الحملات أعطاه عمّه محمد فرصةً لقيادة الجيش رغم صغر سنه، فقد كان على أعتاب العشرين من عمره.
يحكي لنا المؤرخ أحمد بن أعثم الكوفي، في كتابه “الفتوح”، تفاصيل معركة فتح مدينة دربند في داغستان، فقد كان الجيش الداغستاني قوياً وتحصيناته الدفاعية متينة،
لكنّ مسلمة عمد إلى خدعتهم، باستمالة أحد أبناء المدينة الذي أسلم ودخل في طاعة مسلمة، ومن هنا بدأت علاقة مسلمة بن عبدالملك الخاصة ببلاد القوقاز والدولة البيزنطية، إذ سيقود العديد من الفتوحات في تلك البلاد
لم يلبث أن توفي عبدالملك بن مروان عام 705، ليتولّى الوليد بن عبدالملك أكبر أبنائه الخلافة من بعده، وليظلّ مسلمة بن عبدالملك قائداً للجيش الإسلامي على الحدود البيزنطية وفي مناطق القوقاز.
2حلم فتح القسطنطينية.
كانت القسطنطينية تداعب خيال الخلفاء الأمويين منذ بداية الخلافة الأمويّة، فإذا قضى المسلمون الاوائل على إمبراطورية الفرس، فعلى الأمويين أن يقضوا على إمبراطورية البيزنطيين، وبفتح القسطنطينية فإنّ شرعية الخلفاء تزداد، فماذا بعد فتح القسطنطينية من مجد؟!
استمرّت سياسة الوليد على نهج والده: فتح أكبر قدر ممكن من الأراضي في الأناضول والقوقاز، تمهيداً لفتح القسطنطينية.
إلّا أنّ هذه الأحلام أصبحت محلّ تنفيذ في عهد أخيه الآخر سليمان بن عبدالملك. حكم الوليد 10 سنوات، كان مسلمة بن عبدالملك فيها ذراعه اليمنى في بلاد الأناضول، وفي حربه مع الخزر والروس في بلاد القوقاز.
تولّى سليمان بن عبدالملك عام 715، ويحدوه أملٌ واحد واضح: فتح القسطنطينية. حكم سليمان بن عبدالملك سنتين فقط، قضاهما في الترتيب لحملة القسطنطينية.
كانت الدولة البيزنطية تمر بفترةٍ عصيبة ذلك الوقت، فقد كان هناك صراعٌ على العرش وحربٌ أهلية في القسطنطينية، بدأ سليمان بن عبدالملك التجهيز للحملة الكبيرة، فأطلق عدّة جيوش صغيرة في الأناضول ليشغل البيزنطيين عن وجهته النهائية.
استمرّ الحصار عدة أشهر، لكنّ القسطنطينية كانت منيعة، واستطاعت الوقوف في وجه الجيش الضخم الذي كوّنه الخليفة سليمان ويقوده أخوه مسلمة بن عبدالملك. لكنّ حدث أيضاً ما لم يكن في الحسبان فقد توفي الخليفة في ربيع عام 717، وانتهى حلمه بموته، كما انتهى حلم مسلمة بفتح المدينة العصيّة.
وهناك اختلاف بين المؤرخين في سبب انتهاء حملة فتح القسطنطينية، فيقال إنّ سليمان بن عبدالملك قد أرسل لمسلمة في آخر أيامه يخبره أن هناك فتنة بدأت تظهر في خراسان ، وأنّه يريد منه الانسحاب لإخمادها،
لكنّ أقوى الروايات تقول إنّ الخليفة عمر بن عبدالعزيز عندما تولى الحكم بعد سيلمان، أدرك الوضع الخطر الذي يمر به جيش المسلمين الذي يضرب الحصار على القسطنطينية، فأمر مسلمة بالرجوع من الحصار.
3الأخوة بين الحاجة والخوف.
في فترة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، كان مسلمة بن عبدالملك بمثابة مستشار له، لم تطل فترة تولي عمر بن عبدالعزيز للخلافة، حتّى جاء من بعده يزيد بن عبدالملك، وهو أخٌ صغير لمسلمة. ويأتي من بعد يزيد أخٌ صغيرٌ آخر هو هشام بن عبدالملك، وهنا نقطة مثيرة، فقد كان يشترط في الخليفة أن تكون أمّه حرّة، بينما كانت أمّ مسلمة جاريةً لأبيه عبدالملك.
يمكن لنا الآن أن نتخيّل لو كانت الظروف والشروط مختلفة، لكان مسلمة خليفةً للمسلمين بدلاً عن إخوته الأصغر سنّاً، وقد قال المؤرخ الذهبي في توصيفه لمسلمة في كتابه سير اعلام النبلاء.
كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته جميعاً، الكبير منهم والصغير.
بعدما تولّى أخوه الصغير يزيد الخلافة قام تمرد قاده يزيد بن المهلب في العراق على الخلافة الأمويّة، وهنا استنجد يزيد بأخيه مسلمة وولاه على ما في يد يزيد بعد استعادته منه، فلبّى مسلمة طلب أخيه وذهب إلى العراق و أخمد ثورة يزيد في معركة العقر المشهورة، وأصبح والياً على ما كان في يد يزيد من بلاد العراق وفارس.
وعاد لاحقاً من جديد لاستكمال فتوحاته في الأناضول وبلاد القوقاز، وعندما تولّى أخوه الصغير الآخر هشام بن عبدالملك الخلافة، استخدمه في بعض الفتوحات، ثمّ عزله عن ولاية بلاد القوقاز، ويبدو أنّ إخوته الأصغر سناً كانوا يخشون منه، لأنّه كان له ولاءٌ كبير في الجيش، وفي الوقت نفسه هو أكبر منهم سناً، وبالتالي يمكنه أن يطالب بالخلافة.وقد توفي مسلمة عام 738، وما هي سوى 12 عاماً فقط من وفاته حتّى انهارت الدولة الأموية تحت ضربات الدعوة العباسية، حين تقابل جيش العباسيين مع مروان بن محمد في معركة الزاب عام 750.
بالمجمل امتلأت حياة مسلمة بن عبدالملك بالفتوحات والمعارك، فمنذ ذهب مع عمّه محمد بن مروان إلى ولاية أرمينيا وأذربيجان وفتح بلاد دربند حتّى استمرّت حياته على هذا المنوال، بين الجنود والخطط الحربية. فقد عاش مسلمة 54 عاماً، قضى منها 35 عاماً في قيادة جيوش الفتح.