في التفاصيل تكمن الشياطين، وفي المسارات الإدارية تتشابك الخيوط حتى يكاد المستحق يضيع بين تلابيبها.
جاء المرسوم المنتظر لمنح بطاقة الأشخاص في وضعية إعاقة محملًا بوعود الإنصاف، لكنه سرعان ما انحرف نحو متاهة من التعقيدات، فتحوّل الحق إلى مطلب عسير، والمستند البسيط إلى امتحان إداري طويل.
وكما قال كافكا: “القوانين كخيوط العنكبوت، تمسك بالضعفاء وتدع الأقوياء يمرّون”، فكأن العقبات ليست في الإعاقة ذاتها، بل في المنظومة التي تجعل التيسير استثناءً لا قاعدة.
يبدو أن واضعي المرسوم انطلقوا من افتراض غريب، وكأن الإعاقة حالة متغيرة تستوجب إعادة التقييم المستمر، فجعلوا للبطاقة مدة صلاحية محددة في سبع سنوات، مع إلزام حاملها بالإبلاغ عن أي تغيير في وضعه الصحي أو الاجتماعي خلال عشرة أيام فقط.
على الورق، قد يبدو هذا الإجراء منطقيًا لضمان دقة البيانات، لكنه في جوهره يعكس رؤية بيروقراطية تفتقر إلى الإحاطة الحقيقية بواقع الإعاقة. فكيف يُطلب من شخص فقد سمعه، أو يعيش بشلل دائم، أن يُثبت ما هو ثابت؟ وكأن الحياة لم تفرض عليه ما يكفي من المصاعب، لتضيف إليه الإدارة اختبارًا جديدًا لا طائل منه.
لكن المشكلة لا تقتصر على التجديد الإجباري، بل تمتد إلى آلية التقييم ذاتها، حيث يخضع المتقدم لمرحلتين: الأولى طبية تقيس قدراته الجسدية، والثانية اجتماعية تحدد مدى اندماجه في المجتمع.
على السطح، قد تبدو هذه المقاربة شاملة، لكنها تفتح باب الاجتهادات الإدارية التي تفتقر أحيانًا إلى الحس الإنساني. فهل يُعقل أن تصبح حقوق الأفراد رهينة تقديرات موظفين قد لا يدركون تعقيدات حياة الشخص المعني؟
ثم إن هناك من يدّعون ضعف البصر وهم في كامل قدرتهم البصرية، بينما آخرون يعانون من الإعاقة نفسها، وبالدرجة ذاتها، لكنهم يجدون أنفسهم أمام عراقيل لا يواجهها سواهم، وكأن الاختلاف ليس في وضعهم الصحي، بل في طريقة تعامل الإدارات معهم.
أما الرقمنة، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتيسير، فقد تحوّلت إلى عقبة أخرى، إذ لم يأخذ المرسوم بعين الاعتبار أن نسبةً من الأشخاص في وضعية إعاقة قد تواجه صعوبات في التعامل مع المنصات الرقمية. صحيح أن بعض المكفوفين استفادوا من البرامج الناطقة، لكن هذه التكنولوجيا ليست دائمًا متوافقة مع جميع المواقع، ناهيك عن أن البعض لم تتح لهم الفرصة لتعلم استخدامها أصلًا.
أما ذوو الإعاقات الحركية، فقد يجدون أنفسهم أمام نظام يتطلب مهارات وإمكانيات غير متاحة لهم.
وهكذا، بدلاً من أن تفتح الرقمنة أبواب التسهيل، باتت مجرد واجهة حديثة تخفي تعقيدًا إداريًا متزايدًا، في تكرار لسيناريوهات اعتدناها حيث تُستبدل العوائق القديمة بأخرى جديدة، دون أن يتغير الجوهر. وكما قال جورج أورويل: “الغاية من البيروقراطية هي البيروقراطية ذاتها”، فهي أحيانًا لا تسعى لحل المشكلات بقدر ما تعيد تدويرها بأسلوب مختلف.
ولأن كل إجراء إداري يحتاج إلى جهاز يُشرف عليه، فقد أُنشئت لجنة إقليمية لتقييم الإعاقة، تضم ممثلين عن وزارات الداخلية، الصحة، الشغل، والتربية الوطنية.
على الورق، يبدو هذا التنوع ضمانةً لشمولية النظر في الملفات، لكنه في الواقع قد يتحوّل إلى متاهة إدارية جديدة. فكلما تعدد المتدخلون، ازدادت احتمالات تضارب الصلاحيات، وتباطأت الإجراءات بفعل تداخل المسؤوليات.
والسؤال الأهم: هل ستكون هذه اللجنة هيئة إنسانية تراعي الواقع المعقد للأشخاص في وضعية إعاقة، أم أنها مجرد جهاز آخر يعمل وفق منظومة التعليمات، دون اكتراث بالعواقب الفعلية على حياة الأفراد؟
فالتجارب السابقة أثبتت أن تعدد اللجان لا يعني بالضرورة تحقيق العدالة، بل قد يكون مجرد وسيلة لإغراق الحقوق في بحر من الإجراءات العقيمة. فما جدوى القرارات إن لم تصل إلى أصحابها في الوقت المناسب؟
لكن أكثر ما يثير الجدل هو الغموض الذي يحيط بالامتيازات الفعلية التي تمنحها هذه البطاقة. هل تضمن أولوية في العلاج؟ تسهيلات في النقل؟ فرص عمل تتناسب مع احتياجات أصحابها؟ أم أنها مجرد وثيقة أخرى تُضاف إلى رزم المستندات الإدارية دون أثر ملموس؟
إذا لم تكن البطاقة وسيلة تمكين حقيقي، فما جدوى المسار الطويل للحصول عليها؟
إن القوانين وحدها لا تكفي إن لم تكن مصحوبة بآليات تنفيذ واضحة ومُلزمة، وإلا تحوّلت إلى حبر على ورق. وكم من تشريعات صيغت بنوايا حسنة، لكنها انتهت إلى رفوف الأرشيف بلا أثر يُذكر، وكأن المشكلة ليست في النصوص، بل في الإرادة الحقيقية لتفعيلها.
وكما قال الفيلسوف إدموند بيرك: “القوانين السيئة أسوأ أنواع الطغيان”، إذ قد تصبح الأداة التي يُفترض بها حماية الحقوق هي نفسها سبب عرقلتها.
لقد أثبتت التجربة أن البيروقراطية ليست مجرد عائق إداري، بل قد تتحول إلى أكبر العقبات التي تعترض أبسط الحقوق.
فكم من مكفوف مُنع من فتح حساب بنكي بذريعة غياب كفيل، رغم أن القوانين لا تفرض ذلك؟ وكم من شخص في وضعية إعاقة وجد نفسه غير قادر على استخراج وثائق رسمية لأن الإدارة لم تبادر إلى توفير بدائل تتلاءم مع احتياجاته؟
وفي مجال التعليم، لا تزال العقبات قائمة مع غياب آليات فعالة تضمن وصول الطلبة من ذوي الإعاقة إلى الجامعات، حيث تبدو المنظومة غير مهيأة لاستقبالهم كما ينبغي.
وكأن الإشكال ليس في الإعاقة ذاتها، بل في نهج إداري يصرّ على التعامل مع هذه الفئة وكأنها استثناء وليس جزءًا طبيعيًا من المجتمع.
إن القوانين وحدها لا تصنع عدالة، ما لم تكن مصحوبة بإجراءات عملية تعكس فهمًا حقيقيًا لواقع الأفراد، وإلا تحولت الحقوق إلى شعارات جوفاء، تذروها الرياح في أروقة الإدارات المغلقة.















