لوبوكلاج تستضيف اليوم أحد الأصوات الأدبية والنقدية النسائية البارزة في الساحة الثقافية المغربية، نظرا لما تمتاز به من حنكة وثقافة عالية بتراكماتها المعرفية القيمة، وتجاربها الغنية في الوسط الثقافي .
مالكة عسال أديبة مغربية ، يشهد لها بالابداع الذاتي المتمرد والمنطلق من الواقع المعيش. ناقدتنا من مواليد مدينة بن احمد اقليم سطات . طرقت باب الشعر والأدب منذ 2003 ، لتنغمس في مسارات النقد والقصة والرحلة وايضا مسرح الطفل والرسم الكاريكاتوري بالاضافة الى محاولات جادة في الترجمة من اللغة الألمانية الى اللغة العربية .

- أستاذتي الكريمة اول سؤال يطرح نفسه .. ما مفهوم النقد وما علاقته بالأدب ؟
أي عمل إبداعي مهما كان نوعه، إلا ويمُر من مراقبة دقيقة، أي تمحيصه بشكلٍ متكاملٍ حال الانتهاء منه، من قبل صاحبه بما يسمى بالنقد الذاتي، ليخرج العمل في حلة من المتن والجمال ترضي الجميع.. أو من المتلقين في إبداء آرائهم بالردود أو المناقشات والحوارات، قد تكون سلبية أو بناءة؛ والعمل الأدبي كغيره من الأعمال الإبداعية المختلفة، لن ينفلت من وجهات نظر متلقّيه، أو تصوراتهم بما يسمى بالنقد…
والنقد كمفهوم هو عملية إجرائية تحليلية تفسيرية للأعمال الأدبية، تستند على ما هو عقلي / ذهني، وتأملي، أي مجموعة من البُنى الفكرية، والقواعد الجمالية، واللغوية، تقارب النص الأدبي، بالغوص بين ثناياه، وقراءة ما خلف سطوره، وملء فراغاته،
من أجل الكشف عن أنواعه وأشكاله، وأين تتجلى حدود اهتماماته بالقضايا الإنسانية، والظواهر الاجتماعية، بنية توضيح درجات الوعي لدى الأديب، وبالتالي بحثا عن النقاط، التي تجعل النص يتضمن نوعا من الخلق، قد يتميز به عن غيره من النصوص، أو يلتقِي معها ضمن قواسم مشتركة، أو أقل منها نوعا ما؛ وإن شئنا قد نسمي النقد فنا من الفنون الأدبية، التي يمارس فيها الناقد ذوقه وفكره باحترافية،
مطاردا النصوص الأدبية لاقتفاء أثرها، من حيث جماليّتها وقوتها أسلوباً ولغة وصياغة ومتناً.. وندرك جميعا أن النقد توأم الروح للنص الأدبي منذ القدم، كالظل ملازم له، لتقديم خدمات للأديب والأدب معا، ويتخذ مساره حسب كل فترة تاريخية… يقول أحد الرموز النقدية المغربية المبدع نجيب العوفي :
بموازاة هذا التفكيك أو ضمنه كنا نقوم بتفكيك البنى الذهنية ذاتها، الثاوية في طيات البنى السردية والمنتجة لها. كنا نقرأ الأسئلة المضمرة من خلال الأسئلة المظهرة. نقرأ واقعية النصوص من خلال قصصيتها وقصصيتها من خلال واقعيتها….
ففي السابق، كان النقد يمارس الأستاذية بصرامة، من خلال ناقد متسلح بأدوات وقرائن، يحدد على مقاسها النصوص الأدبية بإصدار أحكام، مبينا مكامن القوة والضعف فيها، وقد يتدخل في تشكيل الإبداع أحيانا، لتصويب الخلل في النص بتغيير أو اقتراح حلول…
غير أن وجهة نظر النقد اليوم، تغيرت جملة وتفصيلا، إذ أصبح الناقد يعقد شراكة مع الأديب في النص، ليمنح لنفسه لقب المبدع الثاني بعد المؤلف، فيتدخل عن طريق عمليتي الهدم والبناء، باحترافية نزيهة/ موضوعية، وبأمانة علمية، واضعا النص على طاولة التشريح، يفككه وفق تصورات مبنية على الملاحظة والتفسير،
ثم يعيد تركيبه بما يملك من أدوات علمية، ورؤى معرفية / منهجية من زاويته الخاصة، ليضيء سراديب النص للقراء، أو يثير أشياء لم تكن في اعتقاد المؤلف، مترفعا عن عملية إصدار أحكام على النص، أو تصنيفه في خانة الجودة والرداءة، تصب في مواطن الضعف والقوة، لتقييمه والحكم عليه بمعايير مُعيّنة…
- أستاذة عسال أنت أديبة وناقدة مغربية يشهد لها بالإبداع والإنتاج الغزير ..كيف استطعت الجمع بين النقد والإبداع، وهل يكون النقد حاضراً أثناء ابداعاتك؟
لا أخفيك سرا أن البدايات كانت في أولها بالحبو على حصير الشعر، من منطلق مبكٍ مدمٍ للقلب، تدفق من عباب القضايا الإنسانية الواخزة بأسهمها الحادة، ثم لا مسني شعاع السرد بخط متوازٍ مع الشعر، لأرقص على الحبلين معا،
وكانت الشبكة العنكبوتية بتنوع مواقعها، مهمازا قويا في إذكاء شرارة الإبداع في بعض الأجناس الأخرى، كالقصة /والقصة الومضة أو ما يسمى ب (ق.ق.ج ) والمقال، لأحط الرحال إلى جانب هذا الزخم كله في واحة النقد، خاصة من نوافذ تلاقح أفكار المبدعين، وتبادل الآراء عبر المواقع، والاطلاع على بعض المنجزات الأدبية من مختلف مشاربها،،،،، ولم تفتني الإشكالية المطروحة بين الإبداع، الذي يتمثل الواقع في بعديه الطبيعي والإنساني، المعتمد على التخييل بحثا عن الممكن، انطلاقا من الكائن؛ وبين النقد كمادة علمية تستند على قواعد وأسس منطقية،
مدعمة بنظريات وتصورات ومناهج، تحتضن النص شكلا ومضمونا لتوضيح المبهم، وتسهيل الممر للقراء؛ ومالكة عسال مثلها مثل ذاك القناص، تطوف في حقل الأدب، فتارة تتصيد قريحتُها عبر منطاد الخيال جنسا من الأجناس الأدبية، قد تكون قصة أو شعرا أو أغنية طفل؛ وأخرى تلقي بظلالها على الواقع، متأبطة مادة النقد حين يستهويها ديوان شعري، أو تغازلها مجموعة قصصية، أو تستفزها رواية، فتباشرها بلطف بشكل فني علمي موضوعي،
بعيدة عن الغلو في المناهج حتى لا تُغَيّب الأثر الأدبي من المواد المقروءة، مراعية تغيُّر الزمن وما تعيشه الإنسانية من تحولات، وتناقضات تساهم في تحرّك النصوص، وبالتالي تفسح المجال للناقدة، لاستنطاقها بالتجول في رحابها، والإجابة عن المثمر من أسئلتها، ومن وجهة أخرى، لا تكتفي بالنصوص الأدبية بمفردها، دون الاستناد إلى تنظيرات وتصورات أساتذتها الكبار، مَن سبقوها في هذا الميدان، من أجل التأويل وتوليد الأفكار …
وكما أتفاعل مع نصوص الكتاب، أجدني بنفس المنطق أباشر نصوصي سرديةً كانت أم شعرية، بالتشذيب أثناء الكتابة، وأكرر قراءتها بمراجعة دقيقة للغة وسلاسة الأسلوب قبل النشر؛ فهناك النص الذي يطاوعني، ويكون رحيما بي، فأنهي تأليفه في يومه أوفي يومين، وهناك النص الذي يمارس معي شدّ الحبل لأسابيع، وهناك الذي أقلب موازينه حتى بعد نشره حين أكتشف أن شيئا ما ينقصه، أو تلزمه إضافة ما.. يعني النص المكتمل مازال في قرار المجهول، وما زلت أبحث عنه…
ما هي المواصفات التي يجب توفرها في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقاد؟
كلنا ندرك أن الأذواق والهواجس والميول، تختلف من أديب إلى أديب، ومن ناقد إلى آخر، وباختلافها تختلف النصوص حسب الزاد المعرفي لكل منهما، وما يتمتع به كل على حدة من ملكة وحنكة ومراس، ويمكن للنص الواحد أن تكون له عدة قراءات حسب الأذواق،
وحسب ما يتوفر عليه كل ناقد من آليات معرفية، وما يمتاز به من ذكاء وحس نقديين، يمَكّنانه من منازلة النص الأدبي في التفاعل معه بمراوغة فتاكة؛ فهناك من ينشد متانة اللغة في بساطة الأسلوب، وغيره يميل إلى النص غاوي التعقيد، المشحون بالعجائبي والغرائبي، وثالث تستهويه النصوص القريبة من العامية..
أي قدرات وإمكانات يتفاوت فيها النقاد كما تتفاوت فيها النصوص متنا ولغة وصياغة وتيمة؛ والحقيقة أغلب النقاد يميلون إلى النص الجميل، الذي يضرب بشعاعه مهجة العين والقلب / شكلا ومضمونا، من حيث تيمته ولغته وصياغته وأسلوبه، غاية ممتعة لا غير، ناسيا أن النقد كالإبداع رسالة يجب أن تُقَدّم بأمانة، بتوظيف الأدوات النقدية، والعدة النظرية، وما للناقد من تصورات فنية، وأُسس ومعايير يرجع إليها في التعامل مع النص،
حتى وإن لم يعجبه، حتى وإن لم يرقَ إلى المستوى المطلوب، لتنبيه القراء وحتى المؤلف نفسه إلى أشياء منفلتة، بنية تسليط الضوء عليه، وتصويب الخلل بطريقة بناءة دون مجاملة، أو مديح، ودون تجريح في إظهار نقائص النص فقط.. وتلك لعمري هو نجاح الناقد في مهامه،
- أستاذتي الكريمة لكم عدة إصدارات نقدية ( المرجو أن تذكري أمثلة عنها) من موقعكم كناقدة كيف ترين مستقبل النقد مع كثرة الإصدارات الأدبية؟
” ما يبدعه المرء يجب توثيقه” انطلاقا من هذه الفكرة، ومن آراء بعض الأصدقاء، الذين حفزوني إلى إخراج النقد إلى النور، والذي كان مجرد بحوث ، نُشِر بعضها في بعض المنابر الإعلامية/ ومواقع التواصل الاجتماعي، وأنه ليس من حقي ـــ على لسان البعض ـــ أن تبقى حبيسة الرفوف، فرأت النورَ ثلاثةُ كتب سنة 2020، تفصل بين الكتاب والآخر مدة وجيزة جدا:
ـــ الكتاب الأول بعنوان (( الشعر الحداثي وإشكالية التنظير)) يتكون من شقين على امتداد 131 صفحة، يتحدث في شقه الأول (في ما يقرب من 25 صفحة ) عن الكتابة الشعرية، ودواعيها، ودور الشعر بالنسبة للشاعر، والشعر الحداثي كتركيبة فنية أتت بها السيرورة التاريخية، وإشكالية التأويل بالنسبة للمتلقي، وعشاق الشعر الحداثي المهووسون به.. والشق الثاني شمل في ما تبقى من صفحاته، نخبةً من الشعراء المغاربة كنماذج لما سبق ذكره..
ـــ الكتاب الثاني بعنوان ((الكتابة النسائية بين التحدي والتردي ))/ قائمات المبدعات المغربيات ،يتكون من 91 صفحة شمل بدوره شقين:
يتحدث الشق الأول في ( 28 صفحة )عن الإبداع، وماهية الكتابة كتعبير إبداعي، ومكانة الكتابة النسائية من الإبداع، معززة بقائمة من المبدعات المغربيات، من مختلف الأجناس الأدبية والثقافية والفنية بربوع المملكة المغربية، ذاكرة بعضا من المعوقات التي تجر الكتابة النسائية إلى التردي، كالموروث الثقافي، وتحجر العقول، والسلطوية التي تضع المرأة تحت الوصاية،
وتهميش الكتابة النسائية من بعض المثقفين؛ واضعة بعض الاقتراحات، التي قد تساهم في تطوير الكتابة النسائية والسير بها نحو الأرقى : من ضمنها دور المجتمع والنقاد والمسؤولين في تأهيل الكتابة النسائية، وتضافر جهود وزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، والمؤسسات والمراكز الثقافية والجمعيات، ووسائل الإعلام، للرفع من شأن الكتابة النسائية.. وتم عرض نماذج نسائية في الشعر والقصة والرواية في ما تبقى من الكتاب..
ـــ الكتاب الثالث بعنوان (( الترميز في الشعر العربي الحديث)) يتكون من 119 صفحة على جزأين: ــ الجزء الأول المكون (من 28 صفحة) يعرفنا بالترميز ومفهومه، والصورة الشعرية كنواة له، ودواعي الترميز ومنابعه ومصوغاته وأهدافه، وتلاقح التجارب العربية والأوروبية في هذا المجال،
ودور الترميز في بعض المواقف كقناع للاختفاء من جبروت السلطة، وفن أتت به المسيرة التاريخية، يستند على مصوغات وأشكال بلاغية، وما تحمله الاستعارة من إيحاء ومجاز، واقفة على بعض من أنواع الترميز: كالترميز التاريخي والأسطوري والديني، وما يقدمه الترميز من أهداف إنسانية وفنية.. ـــ والشق الثاني ، يتضمن نماذج لشعراء وشواعر مغاربة وعرب…
ـــ النقد اليوم لا يرتبط بالقلة أو كثرة الإصدارات، ولا يخيفه تراكم المنجزات، لأنه لو عدنا خطوتين إلى العصور السالفة، لوجدنا سماء الإبداع تهاطلت بالألوف والمئات من المبدعين والمبدعات في الأدب، ولكن لم تصلنا منهم إلا نخبة قليلة،
ساعدتها ظروف ما على الظهور، ولو تعمقنا في البحث أكثر لوجدنا بعض المغمورين لهم تميُّزهم، ولكن لم يساعدهم الحظ ليُسَلط عليهم الضوء، بمعنى أن قبضة النقد أحكمت على ما طفا على السطح من المنخل، ومَن تسرب من ثقوبه راح في خبر كان؛ فنفس المصير سيجري على مبدعينا اليوم في ظل ضغوطات الحياة، والإكراهات المعاقبة، والمهام المتعددة،
لم يعد في مقدور أي ناقد، أن يجثم على ركبتيه، ويضع المنجز بأمانة على طاولة التشريح، ويستدعي زاده المعرفي، ليشرح ويفسر ويفكك ويركب، ثم يأتي بما يوضح الملتبس للقراء، ويضخ في النص دماء جديدة، لقد طغا عصر السرعة، فوصلت العدوة الأديب والناقد معا، إلا من رحم ربي، فنجد البعض من أساتذتنا الكتاب، قد دخلوا باحة استراحة المحارب، فقلت غزارتهم الإنتاجية،
بل وغابوا بالسنوات عن ميدان العطاء، ثم عادوا ليواصلوا من جديد؛ كما تسرب العجز إلى بعض النقاد بحجة ضيق الوقت، أو التراكمات الضاغطة؛ والدليل واضح في مواقع التواصل الاجتماعي، فحين ينزل الأديب نصا، لن يلق القبول بالتحليل الذي يشبع النهم، والشرح العميق الذي يثلج الصدر، أو التعقيب الذي يبين مواطن القوة أو الضعف؛
اللهم البطاقات المحملة (بِمِتاجُملة) أو ورود أو رموز، تعبر عن مجاملة نوعية لإرضاء الخاطر، وأكثر التعقيبات لا تمت إلى النص بصلة، والغرابة بمكان، إذا أرفِق النصُّ بصورة، تتعاقب الردود تمدح الشخصية في غياب تام للنص…
- تم تكريمك استاذتي من طرف العديد من المنابرتقديراً لدورك في إثراء الحركة الثقافية في المغرب والوطن العربي. ماذا يمثل التكريم للأديب والناقد ؟ وهل التكريم في رأيكم كاف لتتويج المسيرة الإبداعية والنقدية ؟
الأدب الصادق النابع من عمق القلب بإحساس عميق، تتمَثّله المشاعر الرقيقة الصادقة، والتأمل الصاخب للأوضاع الإنسانية وقضاياها، والوعي بما يجري من الأمور في الكون والعالم، لن ينتظر تكريما أو جائزة، بل يُفجّر الصخر ليصل إلى نبض القلوب،
وتحتضنه الإرادة بكفوف من اللطف بطواعية ….هناك بعض التكريمات التي تتم بموضوعية ونزاهة، بنية إعطاء قيمة للمنجز الأدبي، وإدخال الفرح على صاحبه، لتحفيزه إلى العطاء والبحث عن الجديد، اعترافا وعرفانا بما قدمه في الساحة الأدبية؛ وهناك أخرى تتم عن طريق الزبونية والصداقة، أو صلات معرفية ودية تتم وراء الستار؛ وطبعا المبادرات الأخيرة من هذا النوع لن تخدم الأدب في شيء، بل وعلى العكس، ستبعث الغرور في صاحبه،
ومن تَم يتسرب إليه الخمول في الاطلاع عن تجارب الغير، والبحث عن الأفضل؛ بينما الجوائز والتكريمات التي تتم عن جدارة واستحقاق، فقد تبعث الأمل في المحتفى به، لينطلق مجددا مجهوده، متأبطا أجنحة طموحه ليصل إلى الأفق المأمول؛ والمبدع الحقيقي، يتّبع مساره نحو الأرقى، مُذكيا مسيرته بالاطلاع الواسع على تجارب لها صيتها، واقتفاء أثر كل جديد ومواصلة القراءة والكتابة باستمرار،
والالتزام بقيمة رسالته النبيلة داخل المجتمع وضمن ما أتى به عصره، وتفعيل دوره الصارم كمثقف حقيقي، بوضع إصبعه على الخلل في الواقع المعيش، ومعانقة الهموم الإنسانية بقطع المسافات الفاصلة بينه وبينها؛ حقا لا ننكر أن كل أديب يطمح إلى الشهرة، لتكريس اسمه في المنابر الإعلامية، والحصول على جوائز أو تكريم، أو تخطي نصوصه الحدود بترجمة أو قراءة،
لكن ليست على فقاعات من الهواء، أو تمسك بتلابيب المحاباة، أو القفز بطرق غير مشروعة مبنية على الوهْم ..خلاصة القول المبدع الحقيقي، هو من يسير به إبداعه نحو جائزة أو تكريم، أو تتويج، أو تربع على عرش قرائه، وليس من يركض خلفها..
- بالاضافة الى كونك قاصة وشاعرة ، لك أيضا مساهمات في الترجمة من اللغة الألمانية إلى العربية ، والرسم الكاريكاتوري.. وأنشودة الطفل، والمسرح المدرسي.. إلى ماذا تعزو مالكة عسال هذا التنوع في الإبداع؟
مالكة عسال تعيش واقعا بئيسا، تسود فيه الطبقية، ويتفاوت في عيش الإنسان؛ نخبة بحجم أصابع اليد تستوطن برجها العاجي، تنعم بالراحة النفسية والمادية، وأخرى مفسدة تقتات على سلب الآخر كرامته وحقوقه، ومص دمائه، وغيرها تستعبد من ولدتهم أحرارا؛ فحين تمُرّ في الشارع تجد الإنسان يفترش الثرى ضمن القطط والصراصير،
تسحقه المواسم الأربعة بزمهريرها وقرها وحرها، يقتات على النفايات من القمامات، لا مستقبل له غير التشرد وعدم الاستقرار، والارتماء الدنيء في الخلاء؛ وعلى الصعيد العربي، ترى وتسمع بالصوت والصورة، أطفالا تقتلع أرواحهم كما تقتلع الأزهار من أصيصها، وبيوتا تتساقط على أجساد سكانها، وأحياء تُهجَّر ساكنتها غصْبا، وأوطانا يستل البساط من تحت أقدام مواطنيها، فتتملاها أسرار مبهمة، وتكتنفها أسئلة ملتبسة لاأجوبة لها، ودون وعي منها تحاول فهمها،
والإجابة عنها، فتسعى إلى الغوص في الأوضاع بصفاء النفس، وصدق المشاعر، وحرارة الموقف، فتأتيها سريعة أغنية طفل، أو تلهبها مسرحية مدرسية، أو تدغدغها قصة، أو تضرب مهجتها مضاضة قصيدة، أو تنحو إلى ترجمة قصيدة لامست فيها حرارة الصدق؛ فمن خلال هذا التنوع تبحث مالكة عسال عن الاستقرار النفسي، عن ترميم تمزقات الداخل وإطفاء لهيب التوتر،
وبالتالي تحقيق المأمول المنتظر أي الإبداع المكتمل؛ والركض خلف هذا الهاجس، كان حافزا أقوى لانتقاء وسائل التعبير للتوغل في جوهر الأشياء والكشف عن الحقيقة، بالموهبة والخيال والتصور، والعبقرية في ربط علاقات جديدة بين المتنافر، والأضداد، وعناصر العبث والفوضى؛ حتى يلتحم الداني بالقاصي، ويتوحد البعيد بالقريب، ويلتئم الفوقي بالتحتي، ويرتبط الحاضر بالماضي في انسجام فريدن تأسيسا للممكن من أجل إسعاد الإنسان..
- باعتبارك أستاذة زاولت مهنة التدريس لمدة35سنة كيف ترين مستقبل التعليم العمومي بالمغرب؟ وهل يمكنه أن يخلق جيلا قارئا كما الأجيال السابقة ؟
سأجيبك عن هذا السؤال بمقتطف من مقالي الذي نشر في عدة منابر إعلامية تحت عنوان ((عاهة المنظومة التربوية بالمغرب ))… “تسْع وخمسون سنة تسربلَت أمامي كحبات سبحة ، طُفْت على مدى ثلثيها بين صفا منزلي ومروة المدرسة ، أمعن النظر في مستودعها والوديعة ..وخضم من الأسئلة يقارع ذهني :إلى أين تسير المراكب بالمؤسسة التعليمية المغربية ،
وفي أي الصباحات ترسو ؟؟؟ ماذا ستقدم للطفل المغربي ، وبأية أدوات .؟؟؟ هل ستستمر على هذا النحو أم ستغير جلدها، وترفل استقبالا في حلة زاهية ؟؟..ما نوع الأقمشة التي ستفصلها على مقاس التلاميذ بشكل متحضر عصري متطور؟؟ وكيف ستصرف النظر عن الرتق و الترقيع، ليتنعنع على هضبتها النبغاء، ومن مسامها يتناسل العباقرة ؟؟؟…
أُقِرّ والعهدة عليّ ،أن مدرستنا على مدى سنوات عمري ،عجوز شمطاء، بيدها عصا غليظة تهش بها على أبنائها، تركل البعض فتزحف بهم إلى الشوارع، والبعض الآخر يتجرع إنتاجا تعَلُّميا تعْليميا ، بطريقة عتيقة منقوعة في القدم، واحدة لابديل لها، عمادها التلقين والنقل كحبات أسبرين لكل الأوجاع، لا فرق لها بين طفل في حداثة سنه، ولا شاب في ريعان شبابه، طريقة منتقاة من الغياهب، كالكوارث الطبيعية ترمي طميَها المتحجر،
لتَحجز الفكر النقدي في جُبّ عميق القرار، تزرع في فلاة المتعلمين سنابل مُحرقَة، فترميهم كطير أبابيل بخطايا إرَم ذات العماد، تغتال تطلعات التلاميذ، وتُقبر رغباتهم، وتصيب بنكسة قاتلة ميولهم، وتقيم بين ما هو متطور وعقولهم الأسوار، فتربيها على السالف الذي أصابه البوار، متخذة في ذلك قرارات فردية فريدة، ليست لدى مدارس أوباما كما قيل… باستعمال آليات وأدوات تآكلت بالصدأ: تكديس التلاميذ كالسردين في علب الحجرات، وإثقال ظهورهم بتنوع هائل من المقررات، بينها وبين المأمول ألف حجاب …
*ـــ بما أن مؤسستنا العمومية تسير بهذا التخطيط ، ولا تبذل أي مجهود من أجل الارتقاء بالتعليم والسمو به، كما لدى الدول التي تحترم شعوبها، وأنها تكبت العقول الحية التواقة إلى الرقي والازدهار، للسير في الأروقة الأمامية،
وبما أنه أصبح هاجسها الأمثل هي الخوصصة، بحثا عن مورد مادي والتملص مما يثقل كاهلها من إنفاق على التعليم العمومي، الذي بات كالضرس الموجع يقض مضجعها، فلن تفرخ المؤسسة العمومية إلا جيلا بئيسا، ينتظر معظمهم أرحب مكان في الشارع، اللهم من قفزوا على جدار برلين لمواجة قمم الصعاب المنتصبة بتحد صارم ..
- من موقعكم كأديبة وناقدة ما هي في تصورك الشروط التي تساعد على إرساء نهضة أدبية وثقافية شاملة؟
يجب أولا أن تنبع الثقافة من المدارس، كنواة أولى لاستثمار العنصر البشري، بتحقيق كافة الشروط لتربية العقل على ملكتَي الاطلاع والنقد منذ نعومته، بتعليم ذي جودة عالية ونوعية، وذلك بإقرار مناهج دراسية علمية تتوفر على التكنولوجيا تناسب العصر، مبتعدة تماما عما هو تقليدي أو شحن العقول بما هو خرافي يؤثر سلبا على مستوى القراءة والكتابة والمهارات الأساسية، وإنشاء أندية للقراءة،
وتحفيز المتعلمين بجوائز لغرْز فيهم ملكة حب القراءة والكتابة، مع تكافؤ الفرص بين المناطق الحضرية المركزية والمناطق الهامشية والبدوية، وإلغاء المسافة الفاصلة بين التعليم الخصوصي والعمومي ، وتنظيم دورات تكوينية لأطر التربية والتعليم ، أساتذة، وإداريين، ومرشدين؛ وتجهيز المؤسسات التعليمية بما هو حداثي…تنظيم لقاءات وملتقيات ومهرجانات أدبية من قبل المجتمع المدني كالجمعيات، ودور الشباب، والمراكز الثقافية، يشارك فيها الموهوبون والمحترفون جنبا إلى جنب، كفرصة سانحة لاستثمار مواهب الشباب،
وإبراز طاقاتهم الفكرية والفنية والإبداعية، وتعزيزها بحوارات وقراءات نقدية بناءة هادفة، ومحاضرات تنير الطريق نحو الإبداع، ومتابعة إنتاجهم بالتشذيب والصقل والتنبيه، ومدهم بالملاحظات القيمة مع إحداث مسابقات تحفيزية، مما يدفعهم إلى توسيع مخيلتهم الأدبية، للسير بكتاباتهم نحو الأفضل، وبالتالي خوض تجارب جديدة تتسم بالنضج والإبداع..
ويأتي دور المؤسسات الثقافية الرسمية / اتحاد كتاب المغرب / بيت الشعر في المغرب في تدبير ما على عاتقها من مسؤولية الاهتمام بالشأن الثقافي والفكري، وذلك بنشر الوعي المعرفي / الثقافي وتوظيفه في ما يخدم المجتمع، برؤية منهجية تستثمر العنصر البشري بكل ما تملك من إمكانيات ، وتعمل على تنمية شخصيته وفكره، وغرس فيه حب القراءة، وملكة الحوار والتأمل والتساؤل والنقد، من أجل خلق جيل مفكر يسعى إلى التغيير، بتراكماته المعرفية والإبداعية والفنية، والنظرة التأملية الناقدة للحياة ..
و مَدّ يد المساعدة لبعض المؤلفين، الذين ليست لهم ذات اليد لنشر منتوجاتهم العالقة على الرفوف، وأن تترفع عن هاجس التمييز في استدعاء نفس الوجوه إلى المنابر الثقافية، وإغفال آخرين تتسم أعمالهم بالقوة والجودة.
- أستاذتي الكريمة إذا رغبت في تمرير رسالة إلى الشباب المبدع ماذا سيكون مضمونها؟
ليس الشباب المبدع فقط، بل رسالتي إلى الشباب كافة، أولا أوصيهم أن يبتعدوا عن رفاق السوء، ويتخيروا أصدقاء مهذبين همُّهم الوصول إلى تحقيق المرامي العليا، كما أنهي إليهم أن يعلموا أن الحياة تتأرجح ككفي ميزان،
تارة تسر وأخرى تضر، فعليهم تسلق المرتقى بصبر وتحدٍّ وأناة ، وأن يضعوا الأمل نصب أعينهم في تحقيق أهدافهم، مهما انتصبت قمم التحديات والإكراهات، وألا يتذَمّروا من عطالة أصحاب الشهادات، ويصابوا بالإحباط، ويعلموا أن كل فرد وصل مرتبة عليا في هذه الحياة، إلا ومَرّ من متاعب جسيمة، ولم يصل مركزه ببساطة؛ وأن يخططوا لأهدافهم بتنظيم أوقاتهم،
واستغلال الفراغ منها في الأشياء المهمة، وألا يقضوها في العبث، ويضيعوها في غير المفيد، وأن يثابروا في الاجتهاد، والقيام بواجباتهم الدراسية باستمرار، وألا يخجلوا من طرح الأسئلة على أساتذتهم حول المُعقّد من الدروس، وغير المفهوم منها، وأن يبحثوا في الشبكة العنكبوتية عما يوسع مداركهم، ويزودهم بالمعلومات النافعة، وأن يهتموا باللغة العربية عن طريق القراءة،
لأنها هي الهوية، فالقراءة واحة وارفة الظلال والثمار، تطوف في رحابها العقول، فتقطف يانعها وألذّها، بل هي المحك الذي تشحذ الرؤية للكون، وتُعزز ملكات الكتابة، وتهذب السلوك وتُعلِّم لباقة الحديث؛ وأن يحضروا الندوات وبعض اللقاءات الثقافية التي تنظمها دور الشباب والمراكز الثقافية، للاطلاع على تجارب الآخرين وأفكارهم،؛ كما أحثهم وهذا هو الأهم، أن يكونوا مكتبات في منازلهم ولو بأبسط الأشياء ويملؤوها بالكتب حتى ولو كانت قليلة…