ما أن تطأ قدماك أرضها حتى تبوح لك بأسرارها، وما أن تتوغل وسط شوارعها حتى تشعر بأنك ربما أخطئت الوجهة، فتلك السيارات الفارهة التي تجول في الشوارع وتزين المستوقفات حاملة لوحات ترقيم إيطالية، قد تظن معها للوهلة الأولى، أنك في ميلانو أو تورينو…وليس في مدينة خريبكة. لكن ما أن تقابل شبابها وتنصت إليهم، حتى تدرك أن ما شاهدته لتوك، مشهد مصغر لأحلامهم وتطلعاتهم وآمالهم.
“الطاليان دات لينا العقل”، جملة يرددها الكثير من الشباب في هذه المدينة، فحلم الهجرة إلى “بلاد البيتزا” وامتلاك سيارة فخمة كهذه أو تلك، لا يكاد يفارق مخيلة عدد منهم. ذلك أن الهجرة هنا، أنتجت لنفسها تمثلات ثقافية وصيغا كلامية، أصبحت جزءا من أفكار الشباب ولغتهم ونقاشهم اليومي.
ولكي تكتشف تأثيرها على أحاديثهم وأفكارهم وتطلعاتهم، جالسهم وتحدث معهم عن الطبخ والسياسة والاقتصاد وعن كرة القدم أيضا. آنذاك، لابد لأحد منهم أن يعقد لك مقارنة بين مستوى الدوريين المغربي والإيطالي، وهكذا يأتي ذكر إيطاليا. وقد يحكي لك آخر، عن الفقر الذي كان يعيشه جيرانه، وكيف استطاع ابنهم أن يحسن من وضعهم بعدما هاجر إلى إيطاليا، وهكذا يأتي ذكرها مرة أخرى. وقد يعرض عليك أحدهم، أن يتوسط لك لدى أحد معارفه في الهجرة معه إلى إيطاليا، وهكذا يأتي ذكرها مرة ثالثة ورابعة…
“سأغادر في أقرب فرصة تتاح لي، أريد أن أحسن من وضعي المادي” يقول محمد، 26 سنة، وهو يلاعب سيجارة بين أصابعه الملطخة بالدهان. ويؤكد الشاب الذي يشتغل في ورش لصباغة السيارات، أن آخر أصدقائه المقربين، هاجر إلى إيطاليا قبل أشهر، وأنه صار يشعر بالوحدة هنا بين أزقة خريبكة. وحدة، يقضيها الشاب في مراكمة الأخبار باستمرار عن وجهته القادمة، وفي متابعة بعض قنوات تعلم اللغة الإيطالية على موقع “يوتيوب”، في انتظار “فرصة العمر التي ستخلصني من رائحة هذه الصباغة ” يضيف محمد.
فإذا كانت العوامل الاقتصادية أو ما يسمى ب”عوامل الطرد” متمثلة في البطالة والمشاكل الاقتصادية الأخرى، تشرح في جزء كبير منها، رغبة الشباب هنا في الهجرة، فإن العامل الثقافي صار هو الآخر محددا بل وموجها لسلوكات واختيارات كثيرين منهم، وأصبح معه فعل الهجرة؛ فعلا مفكرا فيه ونتيجة منطقية لتراكم مجموعة من المحددات السوسيوثقافية التي تسهله وتشجع عليه، خاصة في اتجاه دول بعينها.
محمد وآخرون، شبان يقيمون واقعيا في خريبكة، غير أن أحاديثهم وأحاسيسهم وأوتارهم تعزف باستمرار على إيقاع الأغنية الإيطالية الشهيرة التي تقول في مطلعها “دعوني أغني، إنني إيطالي”. يسرحون بخيالهم بعيدا في التخطيط لحياتهم في الديار الإيطالية. خيال يصل أحيانا حد التلفظ بعبارات وجمل باللغة الإيطالية، بل يتعداه إلى ادعاء معرفة أسماء أحياء وشوارع العاصمة روما ومدن أخرى. هم في الحقيقة ظواهر اجتماعية تستحق الوقوف عندها بتمعن، لكن بالـتأكيد، هناك عوامل كثيرة تساعد في إنتاج وإعادة إنتاج هذه الظواهر.
شبكات للهجرة
تعد مدن خريبكة و بني ملال والفقيه بن صالح، من المناطق التي انطلقت منها أعداد مهمة من المهاجرين منذ سنوات الستينات، وبالتدريج شكلت هذه الأجيال الأولى من المهاجرين الذين ساهموا في إعادة إعمار البلد بعد الحرب العالمية الثانية، أرضية خصبة لأقاربهم وبني عمومتهم للالتحاق بهم.
“حين سافرت إلى إيطاليا مطلع الثمانينيات، لم يتطلب مني الأمر أكثر من جواز سفر” يصرح الحاج عثمان الذي يشرف على إنهاء عقده السابع والمحال على المعاش بعد سنوات من العمل بالديار الإيطالية. ويؤكد الرجل، أنه وجد في من سبقوه إلى إيطاليا، سندا وعونا له لدى وصوله، ساعدوه ماديا ومعنويا مثلما ساعد هو الآخر، أشخاص آخرين من بعده.
تقليد حافظت وتحافظ عليه الأجيال الحالية من المهاجرين، إذ يقدمون مجموعة من الخدمات لأبناء المنطقة من المرشحين للهجرة والوافدين الجدد إلى إيطاليا. وما يؤكد هذا البعد التضامني في فعل الهجرة بهذه المنطقة، ما يردده المرشحون للهجرة من عبارات من قبيل “غنمشي عند ولاد البلاد”، “كاينين تما ولاد بلادي”، “عارف شي ناس تما”….
في هذا الصدد، يعتبر أستاذ علم الاجتماع، علي الشعباني، أن فعل هجرة الشباب الخريبكي إلى إيطاليا، ليس حبا في هذه الأخيرة، وإنما “لأنهم يجدون فيها أفراد ينتمون إلى نفس قبيلتهم ومدينتهم وقريتهم، ومن سيتخاطبون معهم بلغتهم الأم ويؤنسهم في غربتهم. وبذلك يسهل عليهم الاندماج ويمنحهم فرصة أكبر للحصول على فرص للعمل وتسوية وضعيتهم القانونية، عبر شبكة علاقات معارفهم هناك”. ويؤكد الشعباني، أن هذه المسألة، أثرت على العائلات القاطنة في المغرب، والتي بدأت تراهن على هجرة أبنائها ولو بدفع مبالغ مالية للوسطاء لتسهيلها.
ذلك أن الشاب المقبل على الهجرة، يحتاج إلى ضمانات فعلية لنجاح هجرته، سواء قبل أو بعد الوصول إلى إيطاليا. كما يحتاج إلى التوجيه والمساعدة والمواكبة من المهاجرين الذين سبقوه، تفاديا لأي خطأ قد يُركِبه أول طائرة عائدة إلى المغرب، خاصة، إذا كان مقيما بشكل غير قانوني. هذه الأدوار، يتكلف بها المهاجرون الأوائل الذين شكلوا من أجل ذلك شبكات تضامنية للهجرة، عملا بالمقولة الشعبية القائلة ” اللهم فولد البلاد ولا البراني”. فمن أجل ضمان استمرارية ارتباطهم بالمغرب، يعمدون إلى تأسيس مجتمع مصغر داخل المجتمع الإيطالي، يستجيب لنفس التنظيم والقواعد الثقافية والدينية التي يخضع لها مجتمعهم الأصلي، وهو ما شجع ويشجع الكثير من الشباب على الهجرة.
زيارات تشجع الهجرة
“شحال من واحد مشا للطاليان ورجع جاب معاه اللعاقة والحديد” يقول العشريني عمر، وهو يرتدي قميصا لنادي “يوفنتوس” الإيطالي. “هادا راه دوريجين، جابو ليا ولد خالتي من الطاليان” يضيف الشاب مشيرا بأصبعه إلى شعار الفريق الإيطالي جهة قلبه. ولا يخفي عمر، إعجابه بابن خالته الذي وعده باستقدامه إلى إيطاليا حال موافقة والده.
تعتبر الزيارات التي يقوم بها المهاجرون المقيمون في إيطاليا إلى خريبكة في العطل الصيفية أو خلال المناسبات الدينية والوطنية، فرصة لإظهار الترف والبذخ اللذين يعيشونه في بلاد المهجر. فأثناء هذه الزيارات، يعمدون إلى توزيع الهدايا والهبات النقدية على أفراد عائلتهم وأصدقائهم ومعارفهم. هذه السلوكيات- وإن كانت عن حسن نية نابعة من الكرم الذي يعرف بها المغاربة -، فإنها تغري الفئات غير المهاجرة، وتؤجج في نفوسهم رغبة جامحة في الهجرة، وتزداد هذه الرغبة إلحاحا كلما تأزمت ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية.
“كين كان وكي ولا”، عبارة يستعملها الشباب لعقد مقارنة بين ماضي المهاجر وحاضره، وكيف استطاعت الهجرة أن تساهم في تحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اقتناعهم بفكرة الهجرة باعتبارها قطيعة مع الماضي وتبوءاً لموقع اجتماعي مهم داخل مجتمعهم. إذ أن المهاجر المقيم بالديار الأوروبية يحظى عند المغاربة عامة، بمكانة اجتماعية متميزة تتجسد أساسا في استقبال “البطل العائد من المعركة” الذي يحظى به من طرف العائلة والمعارف عند قدومه إلى المغرب.
كما تتجسد هذه المكانة، في استعمال صيغ لغوية وتعبيرية كثيرة عند الحديث عن تجارب الهجرة الناجحة، من قبيل: “ماضيين، دوغريين، حارين، رجال، مْلْعقين…”. وصارت الهجرة، بمثابة شهادة نجاح وتميز تمنح للمهاجر. وظهر معها تقسيم طبقي جديد للمجتمع المحلي، على أسس اقتصادية واجتماعية: الطبقة المهاجرة والطبقة غير المهاجرة.
كل الطرق تؤدي إلى روما
إلى جانب تجذر ثقافة الهجرة في المجتمع الخريبيكي، وارتباط هذا الأخير في الوعي الجمعي للمغاربة بفعل الهجرة إلى إيطاليا، على غرار ارتباط “المجتمع الريفي” بالهجرة إلى هولندا و”المجتمع السوسي” بالهجرة إلى فرنسا… فقد استطاعت هذه الثقافة، مع توالي السنوات، أن تصنع لنفسها بنية اقتصادية واستثمارية اخترقت النسيج المجتمعي مع تعدد المتدخلين في عملية الهجرة. بدءاً بالعائلات التي تستثمر في أبنائها وتكافح لتوفير المال من أجل تسهيل هجرتهم، وصولا إلى الوسطاء الذين يمتهنون بيع عقود عمل للزبناء المرشحين للهجرة بمبالغ تصل أحيانا إلى ملايين السنتيمات.
“غنضبر على كونترا ونمشي فحالي” يعلق ياسين، الذي رأى النور بأحد الدواوير التابعة لإقليم خريبكة، والحاصل على إجازة في الأدب الفرنسي، على الطريقة التي يعتزم بها تحقيق حلم الوصول إلى الديار الإيطالية. وهو يتفقد هاتفه الذي جعل من صورة لبرج “بيزا المائل” خلفية لشاشته، يضيف:”فليسات الكونترا موجودين، خاص غير شي واحد ثقة”.
يفضل ياسين وعلى غرار الكثيرين، الحصول على عقد للعمل بإيطاليا، كوسيلة مثلى للهجرة، ومن تم الحصول على وثائق الإقامة ثم على الجنسية في مرحلة لاحقة أو على “الباسبور لحمر” بلغة الشباب. هي طريقة وإن كان ثمنها باهضا إلا أنها “حسن من نمشي نريسكي فالبحر” يضيف ياسين.
غير أنه ليس بمقدور كل شاب حالم بالهجرة، تحمل التكلفة الباهظة لعقود العمل هذه. فضيق ذات اليد واتساع أفق الحلم، دفع الكثيرين إلى إيجاد طرق أقل ثمنا وإن كانت أكثر خطورة وعنفا. وتعد الهجرة السرية عبر البحر الأبيض المتوسط، أشهر هذه الطرق. في حين يفضل آخرون التسلل عبر الموانئ في حاويات أو تحت عجلات شاحنات النقل الكبرى التي تعبر النقط الحدودية في اتجاه أوروبا، وهي طرق لا تقل درامية عن عبور البحر والمقامرة بالحياة. فيما يختار بعضهم، أسلوب “الزواج الابيض” الذي تنتهي مدة صلاحية عقده بمجرد حصول على أحد طرفية على أوراق الإقامة في إيطاليا، ودونما اعتبار لفارق السن بين الزوجين المؤقتين في كثير من الأحيان.
كما برزت في الآونة الأخيرة، طرق جديدة أفرزها واقع الهجرة، أبرزها الهجرة غير النظامية عبر طريق تركيا- البلقان. وهو الطريق الذي يسلكه المهاجرون من تركيا إلى اليونان إلى مقدونيا فصريبا ثم هنغاريا وصولا إلى غرب أوروبا، وتسللا عبر الحدود البرية والبحرية لهذه البلدان. وهي مغامرة لا تخلو من مخاطر، وكثيرون لقوا حتفهم على الحدود.
” يا ربحة يا ذبحة”، بهذه العبارة، علل محمد، الذي يشتغل نادلا بأحد محلات إعداد الوجبات السريعة، إصراره على الهجرة إلى إيطاليا عبر تركيا. ويرى المعيل الوحيد لأسرته، أن العمر بدأ يتقدم به، هو الذي يشرف على إنهاء عقده الثالث من العمر، وأن الهجرة هي “المستقبل” بالنسبة له.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، مجموعة من الصفحات والفيديوهات التي تلقى نسب مشاهدة مهمة، لشباب مغاربة نجحوا في رحلة العبور من تركيا إلى دول أوروبية أخرى، يقدمون من خلالها “النصائح والتوجيهات” للمرشحين لهذه المغامرة. ذلك أن السلطات التركية تعفي المواطنين المغاربة من تأشيرة الدخول إلى أراضيها. وهو مكسب يستغله الشباب لصالحهم، خاصة وأن ثمن تذكرة السفر ذهابا وإيابا إلى تركيا، لا تتجاوز خمسة آلاف درهم في أقصى الحالات.
نظرة خاطئة ورغبة في العودة
تتعدد الطرق والأساليب التي يهاجر بها الشباب رغبة في تحقيق “الرفاه والغنى” الموعودين، غير أن الحال عكس ذلك، “فأغلب الصور المجتمعية الرائجة حول المهاجر وحياة الرفاهية التي يعيشها في الديار الأوروبية، هي صور ظاهرة تخفي وراءها قصصا من المعاناة والاغتراب يعيشها المهاجر كل يوم في بلاد المهجر” يؤكد الباحث في السوسيولوجيا، يوسف بن الشيخ.
في السياق ذاته، كشفت دراسة حديثة أعدها مجلس الجالية المغربية بالخارج، بشراكة مع معهد “إيبسوس”، أن 82 % من الشباب المغربي المقيم في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا، يشعرون بالغربة في بلدان إقامتهم. الدراسة ذاتها، أكدت أن هذا الشعور حاضر بمعدل أكبر لدى الشباب المقيم بالديار الإيطالية بنسبة 92 %، فيما يعاني أكثر من 60% منهم من صعوبات تتعلق أساسا بظروف العمل والتشغيل، بينما يعاني أكثر من نصفهم من تدني مستوى الأجور. أرقام تفند الصورة النمطية التي يتداولها العامة عن المهاجرين وعن حالة “الترف والسعادة” اللتين يعيشونها في بلدان إقامتهم، وتكشف عن اغتراب اجتماعي وتيه ثقافي وأزمة هوية يعيشها المهاجر المغربي في بلاد المهجر.
“إيطاليا ماشي كيما كنشوفوها فالتلفزة وكلشي زوين فيها” تعلق هاجر، الحاملة للجنسية الإيطالية، على أوضاع المهاجرين المغاربة في الديار الإيطالية. وتؤكد المتحدثة، أن المهاجر هناك، يجد صعوبة في التوفيق بين ثقافتين ووطنين وعالمين مختلفين أشد الاختلاف: البلد الأصل والبلد المضيف.
تؤكد الشهادات المجمعة أن عددا غير قليل من المهاجرين، يفكرون في الهجرة عكسيا في إطار ما يسمى “الهجرة العائدة” إلى بلدهم الأصل، المغرب. خاصة، بعدما حقق هذا الأخير قفزات تنموية، وتوفرت فيه سبل الاستقرار التي أصبحت تشكل عوامل جذب لهم بعدما كانت عوامل طرد.
وتختلف أسباب الرغبة في العودة من مهاجر إلى آخر، إذ يجمعهم الخوف من تفكك روابطهم الأسرية والاجتماعية، وتفكيرهم الدائم في العودة إلى المغرب، لكن كمستثمرين لا كمهاجرين، من خلال تحويل مدخرات العمل إلى مشاريع واستثمارات في مدنهم وقراهم تحديدا.
“غير نجمع شويا دالفلوس وندخل نهائيا لبلادي” يصرح عبد المجيد، المقيم في الديار الإيطالية لأزيد من ست سنوات. لم يخف المتحدث وهو يحكي عن سنواته عمره التي قضاها هناك، حسرته وانشغاله الدائمَين بأمر زوجته وابنهما اللذين تركهما هنا في المغرب. حكى لنا الرجل، عن مغاربة يعرفهم، بعضهم يحمل أوراق إقامة رسمية، يعيشون ظروفا اقتصادية صعبة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة في إيطاليا، ويرغبون في العودة إلى بلدهم، لكنهم:”خايفين من كلام الناس والشمتة” يسترسل الرجل.
وقد زادت الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة، بدء من أزمة كورونا ومخلفاتها الاقتصادية والاجتماعية، وصولا إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاديات الأوربية وتضرر سلاسل الإنتاج، من معاناة المهاجرين في عدد من الدول، خاصة في ظل تنامي النزعات القومية التي تدعو إلى وضع سياسات تحكمية في مسارات الهجرة وتبعاتها.