لم يكن الزلزال الذي هزّ قناة الأمازيغية سوى الشجرة التي تخفي غابة من الاختلالات البنيوية التي تنخر أوصال الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة منذ سنوات. إحالة مسؤولين على قاضي التحقيق، و إغلاق الحدود في وجوه بعضهم، ليست سوى خطوة أولى في مسار طويل نحو كشف الحقيقة الكاملة، و مسؤوليات ثقيلة تتجاوز الأسماء التي تم إعفاؤها مؤخرًا، لتصل إلى قمة الهرم الإداري في دار البريهي.
فمنذ سنة 2015 إلى سنة 2019، صدرت عن المجلس الأعلى للحسابات تقارير رسمية بالغة الخطورة، رصدت جملة من التجاوزات الإدارية و المالية داخل المؤسسة، لكن دون أن تترتب عنها أي متابعة أو محاسبة حقيقية.

و يكفي أن نُشير إلى العجز المالي المسجل سنة 2022، الذي بلغ 13.5 مليار سنتيم، دون تبرير واضح، رغم أنه أدى فقط إلى إعفاء المدير المالي، في حين ظل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرد شعار دون تفعيل.
الأمر ذاته تكرر مع مدير القناة السادسة، الذي أُقيل بدوره على خلفية اختلالات تدبيرية، دون أن تواكب الإقالة مسطرة مساءلة أو تحقيق إداري شامل يحدد المسؤوليات الفردية و المؤسساتية كما تقتضي قواعد الحكامة الجيدة.
و في ميدان الإنتاج السمعي البصري، تتكشف ممارسات لا تقل خطورة. إذ ظلت لجنة انتقاء البرامج نفسها قائمة لما يزيد عن عشر سنوات، دون تجديد أو تقييم، في مخالفة واضحة لمبدأ التداول و التنافسية، مما أفرز استفادة شبه دائمة لعدد محدود من الشركات الإنتاجية، بعيدًا عن أي منافسة عادلة أو شفافية في تدبير الصفقات.
كما أن بعض البرامج التي تجاوزت عمرها الطبيعي على الشاشة، مثل أحد البرامج التي بلغت موسمه التاسع عشر، تعكس غيابًا لأي تقييم موضوعي للأداء البرامجي أو لمردوديته الإعلامية.
و الأسوأ من ذلك أن هناك أعمالًا درامية تم اقتناؤها دون أن تبث إلى اليوم، مما يثير تساؤلات حول معايير صرف المال العام و آليات الرقابة على العقود.
إن هذه التجاوزات لا يمكن فصلها عن منظومة التدبير العامة التي يشرف عليها الرئيس المدير العام، بحكم مسؤوليته التقديرية و التسييرية المباشرة على مختلف المصالح و القنوات.
التعيينات التي تمت على أساس الولاء الإداري أو العلاقات الشخصية، بدل الكفاءة و المهنية، أفرزت اليوم نتائجها الكارثية: سوء تدبير، اختلالات مالية، و قرارات مرتجلة لا تخضع لأي منطق مؤسساتي.
لكن، و على الرغم من هذا المشهد القاتم، فإن ما وقع في قناة الأمازيغية أعاد بصيصًا من الأمل إلى النفوس، بأن زمن الإفلات من العقاب قد بدأ يتراجع، و أن الدولة تتجه نحو تفعيل مبدأ لا أحد فوق القانون.
غير أن هذا الأمل لن يتحول إلى إصلاح حقيقي إلا إذا تم توسيع التحقيقات لتشمل كل الملفات التي تحمل شبهة اختلال أو سوء تدبير داخل الشركة الوطنية، و إعادة فتح كل التقارير السابقة التي طواها الإهمال.
لقد آن الأوان لأن يُطوى نهائيًا عهد التساهل و اللامحاسبة في دار البريهي، و أن تبدأ مرحلة جديدة قوامها الشفافية، و المساءلة، و إعادة الثقة في المرفق العمومي للإعلام الوطني.
فالإصلاح لا يتحقق بإعفاءات انتقائية، بل بإرادة مؤسساتية تضع حدًا للفساد الذي طال أمده، و تعيد للإعلام العمومي مكانته كخدمة وطنية خالصة، تستمد مشروعيتها من نزاهتها و استقلاليتها قبل أي شيء آخر.















