حوار اليوم مع الكاتب الرصين والمترجم الامع المغربي أحمد الويزي، الذي يعتبر أحد أعضاء اتحاد كتاب المغرب، وعضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الثامن لاتحاد كتاب المغرب (الرباط 2012)، وعضو مؤسس ورئيس سابق لجمعية أصدقاء الكتاب (بني ملال)، وعضو الجمعية العربية للمترجمين … ألف عددا من الانتاجات والمؤلفات الشخصية كرواية حمام العرصة، ( أفريقيا الشر)، بلاد بلارج ( دار الآداب)، والمجموعة القصصية صدر الملاكم( وزارة الثقافة) ورواية الملك يموت مرتين (المركز الثقافي العربي ) .. وترجم أخرى من اللغة الفرنسية للعربية، كالفقراء (ترجمة لدوستويفسكي) وطائفة بوينس آيرس (ترجمة ساباتو وبورخيس) … شارك في كتب ومنشورات جماعية وهي مراكش التي كانت، والنظر في المرآة التي ضمت 30 كاتبا عربيا، كما ساهم في تداريب و ندوات منها ندوة خطاب الرواية والتاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش وندوة الرواية في ضيافة المسرح أيام المهرجان الوطني للمسرح المحترف، بالجزائر العاصمة.
أنجز الحوار الافتراضي عبر منصة ‘الواتساب، وقد حدثنا فيه الكاتب عن أحدث منشوراته الأدبية (نكاية في هرقليطس)، سيرته الذاتية التي تدور أجوائها ووقائعها وشخوصها ببلده المغرب، وشهادته الشخصية المتحدثة بلسان جيله. وقد نالت دار أثر للنشر والتوزيع بالسعودية، شرف نشر هذا العمل وتوزيعه.
ما قصة صداقتك مع الكتابة؟
علاقتي بالكتابة قديمة نسبيا إلى حد ما؛ بحكم أن إرهاصاتها اتصلت عندي بمرحلة المراهقة تحديدا؛ وهي المرحلة الانتقالية العصيبة التي يمر منها المرء، وتطبعه بالكثير من التحولات العجيبة والغريبة والمفاجئة أحيانا، مثلما تعرفين. وقد هيمنت علي في هذه المرحلة بالذات، رغبة جامحة في العزلة عن محيط أسرتي، والانفصال عن أترابي واقراني، وتجريب إمكانات التعبير الشعري، في رومانسية بدائية بسيطة، بعد أن اكتشفت الأدب، واطلعت على بعض النماذج من الكتابة الإبداعية الرومانسية. وهكذا، انكببت من تلقاء نفسي في تلك الأثناء، أقلد كتابات جبران خليل جبران والمنفلوطي وايليا أبي ماضي وغير هم، و”أكسر على الورق طوق الأرق”، مثلما كنت أقول. لكن الكتابة بمفهومها الحقيقي والمسؤول، وما واكبها من عمليات النشر وتوالي الإصدارات الرسمية، فلم تبدأ عندي إلا في وقت متأخر جدا، أي بعد أن تجاوزت سن الأربعين!
تندرج كتاباتك ضمن لفيف من الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة والسيرة الروائية… ما السر في هذا التنويع؟
الكتابة الإبداعية حالات ومواقف متنوعة ومتداخلة، يتفاعل ضمنها البعد الوجداني بما هو وجودي وفكري/معرفي، وبذلك تتأثر هذه الكتابة بشتى المؤثرات والحالات، فتأتي حينا تعبيرا شعريا، وحينا آخر قصة قصيرة، وثالثا رواية، أو ما شابه ذلك. وقد كتبت أنا بالفعل الرواية، مثلما كتبت القصة القصيرة، والقصيرة جدا، والسيرة، والقصيدة الشعرية والخاطرة وغيرها؛ وكل ذلك، في مراحل متنوعة من عمر تجربتي الإبداعية القصير! وقد تحكمت في عملية اختياري لهذه الأنواع، مجموعة من البواعث الداعية والمقاصد المنشودة. فالقصة لا تستهدف تحقيق غير الأثر الفني والجمالي المحدود في المكان والزمان، بينما مقصدية الرواية شيء آخر أوسع وأبعد. لذلك، اختلفت اختياراتي باختلاف الغايات المعقودة على ناصية كل جنس أدبي من الأجناس السردية، التي اعتمدتها، فصرت مع توالي الأيام، أميل أكثر إلى الرواية، بحكم قدرتها الهائلة على استيعاب جميع تلك الأجناس، ومضارعتها ومضاعفتها.
على حد علمنا، نكاية في هراقليطس هو كتابك الخامس عشر، ما قصة العنوان؟ وهل يمكنك أن تطلعنا حصريا على بعض من مضامينه؟
“نكاية في هيراقليطس” هو الكتاب الخامس عشر، ضمن سلسلة من الكتب التي صدرت لي لحد الآن، سواء منها التآليف الإبداعيّة المحضة، أو الكتب المترجمة. وهذا الكتاب بالتحديد هو سيرة روائية، تستند الى عملية استرجاع أدبي لمراحل من فترة صباي وطفولتي، الى جانب مراحل أخرى حاسمة من سن اليفاع وبداية الشباب. لقد عشت طفولة استثنائية بشكل من الأشكال، بحكم الظروف الثقافية التي نشأت فيها، وطبيعة الفئة الاجتماعية التي كانت تنتمي إليها أسرتي. وهي استثنائية لأني ظللت أعيش ضمنها آفة الاجتثاث والفقر المذقع، ذلك أن أسرتي بقيت، بسبب مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، تتنقل بين مدن أكادير وتارودانت والصويرة ومراكش لسنوات وسنوات. ولم يتوقف طواف أسرتي عند هذا الحد وحسب، وإنما عشنا نحن الابناء والبنات، في كل هذه المدن تنقلات عدة متعبة وغير ممتعة بالمرة، مورست فيها علينا إكراه الاجتثاث. وترتيبا على ذلك، وقعت لي شخصيا، ثلة من الوقائع والأحداث التي بصمت طفولتي، وأثرت سلبا على مساري الدراسي، لم أفلح في الانعتاق منها إلا بصعوبة وإرادة فولاذية، بينما لم يستطع الانفلات منها كافة اخواني واخواتي العشرة. ومن ثم، آليت على نفسي، لما أشرفت على عقدي السادس، أن أستعيد هذه الوقائع والأحداث ضمن سفر سيري، يمكنني من العودة إلى نهر الطفولة من جديد، كي أستحم فيه مرة أخرى، رغم أنف هراقليطس!
صحيح أن كتابة الرواية تعد عملا شاقا ومضينا، يحتاج الى كثير من الصبر والعزيمة لإنجازه، وكتابة السيرة تعد أكثر مشقة، فإلى جانب مسألة النبش وتذكر الوقائع والإمساك بخيوطها بإحكام حتى لا ينفلت أحدها وينهار العمل، تأتي مسألة الصدق التي لا بد منها، هل بمقدورك اخبارنا عن طقوس ولادة سيرتك الذاتية ‘ نكاية في هرقليطس’ وهل واجهت أية مشاكل هددت استمرارية العمل؟
بالفعل، كل عمل إبداعي إلا ويعد ضربا من المجاسرة، التي لا تخلو من عنت وصعوبة، وحتى من بعض المجازفة. لكن نص: “نكاية في هيراقليطس” ظل عندي، بكل صراحة، من قبيل النصوص الاستثنائية جدا جدا، بالمقارنة مع ثلة السرود الروائية الأخرى، التي أنجزتها. فقد كتبت روايتي الاولى “حمام العرصة” مثلا، في ظرف سنتين. وانتهيت من روايتي الثانية: “دار بلارج” في خضم ثلاث سنوات. أما الثالثة الموسومة بعنوان: “الملك يموت مرتين” فقد استغرقت مني أكثر من خمس سنوات. بينما دبجت سيرتي الروائية “نكاية في هيراقليطس” أقل من نصف عام! أجل، كتبتها كاملة في أقل من ستة أشهر، وحسب! والسبب هو أن النص ظل جاهزا عندي في الذهن، منذ عقود خلت. إلى جانب أن ظرفية الحجر الصحي، التي عشنا جميعا وطأتها الضاغطة، خلال الفترة الماضية، كان لها دورها الإيجابي في شحذ الهمة، من أجل الانتصار على أشكال الموت المادي والرمزي. ولعل ميلاد هذه السيرة بالذات، في خضم هذه الظرفية، هو انتصار للحياة على الموت! أما معيار الصدق، الذي يفترضه كل نص سيري، فمسألة محسوم فيها، بحكم أني – كما أشرت في المقدمة، التي وطأت بها للنص- اخترت أن أكون موضوعيا إلى حد العري، وأنا استعيد أطوار طفولتي، فجاءت كتابتي ضربا من البوح والاعتراف، اللذين كشفت فيهما عن اشكال الشقاء والضعف والهنات التي ابتليت بها من جهة، الى جانب أنماط السعادة والغبطة والمسرات، التي فزت بها. ولا أريد أن أتحدث كثيرا عن مضامين هذا النص هنا والآن، وإنما اترك ذلك ليكتشفه القارئ في حينه!
نلاحظ أن كتاباتك غالبا ما تستند في بنائها الروائي على التاريخ والمتخيل كمعطى أول وغالبا ما يتجسد لنا البطل في صورة الكاتب ذاته الشيء الذي يجعل عددا منها يواجه اشكالا بخصوص التصنيف المراد إدراجها فيه، ما السر في بلاغة قلم أحمد الويزي؟
هذه الملاحظة السديدة تنطبق بالأساس على عملي الروائيين التاليين: “دار بلارج” و”الملك يموت مرتين”؛ بينما هي لا تنطبق على العملين الروائيين المتبقيين: “حمام العرصة” ونكاية في هيراقليطس”. وإذا أردت ملامسة الصواب أقول إنها تنطبق فقط على رواية “الملك يموت مرتين”، حيث يتم تقديمها على أساس أنها في الأصل نص فرنسي، لم يلق ما يستحقه من عناية وتقدير وانتشار في فرنسا ولا في المغرب، إبان الخمسينيّات والستّينيات من القرن الماضي؛ ما حذا بالمترجم (احمد الويزي)، الى العمل على تعريبه، بعد أن وجد منه نسخة متقادمة في أرشيف مدينة نانت الفرنسية، وإلحاق مجموعة من الهوامش على متنه.
ويدخل كل هذا وغيره، في إطار عملية التجريب الروائي، التي تحاول ما أمكن لها أن تقدم نصا حداثيا، بعيدا كل البعد عن الشكل التقليدي للرواية، لكن من غير التفريط في الحكاية والخاصية الروائية. وهذا المنزع الحداثي هو ما يقود جميع أعمالي، سواء منها “حمام العرصة” بالذات، أو “دار بلارج”، أو “صدر الملاكم”، غيرها. فأنا لا أكتب إلا ضمن سيرورة جنس أدبي، صار ميسم التجريب والتحديث هو ما بطبعه في الوطن العربي، منذ النماذج الحداثية الأولى من الرواية العربية، التي ظهرت بعد نكسة 67 في كل من مصر ولبنان وسوريا وغيرها من بقية الأوطان العربية. ولذلك، أراهن في جميع ما أكتبه على نباهة القارئ، وعلى ثقافته، وقدرته على التمييز والتحويل والتأويل. بمعنى أني أراهن، الى جانب وجدان القارئ، على ذهنه وقدراته العقلية التمييزية؛ لأني باختصار لا أكتب حدوثات تدغدغ العواطف، وتساهم في التنويم، وإنما روايات ذات طابع حواري وخاصية حداثية، تساهم في تفعيل وتنمية المقدرات الذهنية والمعرفية للقارئ؛ وهذا الرهان بالذات، هو الذي جعل أغلب ما أكتبه يتخذ صبغة “نخبوية élitiste”، كما قال لي أحد ناشري أعمالي.
قراءك بأسلوبك الفريد في الكتابة تعلق الغريق بحبل النجاة، وذلك من بداية العمل الى نهايته بماذا تفسر ذلك؟
لست أدري إن كان قرائي بالفعل، يتعلقون بأسلوبي من البداية إلى النهاية، أم لا؛ على الرغم من أن كل عمل أدبي روائي هو ثلة مجتمعة من الأساليب واللغات والتمثلات والرؤى. كل ما أعرفه هو أني أحاول ما أمكن لي، أن أنشئ أدبا جميلا ورفيعا، بشتى اللغات والصيغ والطرق الممكنة، لأن الأدب ليس مادة حكائية وحسب، وإنّما هو أيضا وعاء جمالي لتلك المادة الحكائية. لهذا، ظل يتطلب مني الوصول الى الرضا عن فقرة من الفقرات في عمل من أعمالي، والاقتناع كل الاقتناع بها دون غيرها، الكثير والكثير من الوقت والجهد والتكرار. ولهذا السبب أيضا، انا مقل كثيرا في كتاباتي؛ إذ لم انشر لحد الآن، إلا القليل مما رضيت عنه، بينما تحتفظ أدراج مكتبي على نسخ كثيرة، مما لم أرض عنه أبدا!
كيف كانت تجربة الترجمة؟
بالنسبة إلى الترجمة، فاعتبرها عملية إبداعية، ترتبط عندي بفاعلية القراءة والرغبة في الانفتاح على أدب الغير، والتعريف به ضمن دينامية المثاقفة. ولا غرو في ذلك، ما دامت الترجمة مدخلا أساسيا للمثاقفة. وتجدر الإشارة الى أن أغلب ما صدر لي من ترجمات، إلى حد الآن (وتشمل القصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والنص النقدي الفكري، والتحليل الفلسفي، والمحاورة الأدبية، والكتابة التراسلية)؛ هو ثلة من النصوص التي اكتشفتها، عبر آلية القراءة، وارتفعت بضرورة نقلها إلى العربية. ومن ثم، يمكن لي القول إن الترجمة عندي، رديفة القراءة والإبداع، وجزء لا يتجزأ من عملية تصريف بعض القناعات الفكرية الحداثية.