عُمْقُ المغرب التاريخي وامتداداته الجغرافية والروحية والاقتصادية وطبعاً السياسية في القارة الإفريقية، أكبر من أن تُختصر في حيز زمني أو حقبة تاريخية أو إطار أو مجال جغرافي محدد بعينه، وكثيراً ما يُنظر للمغرب في بعده المتوسطي وهو أقرب البلدان العربية والإفريقية جغرافياً إلى القارة الأوروبية، وأحياناً يُنظر إليه في سياقه الإقليمي العربي، وهو البلد الذي كان ولايزال دوماً فاعلاً محورياً و اساسياً في القضايا الإسلامية والعربية الكبرى، وعلى رأسها الملفات الشرق أوسطية رغم بعده الجغرافي عن قلب المنطقة ، بَيْدَ أنَّ هوية المغرب الاستراتيجية والحضارية والإنسانية كانت في الماضي ولا تزال صحراوية إفريقية، في احترام وانسجام تام مع مُعطى تعدد مشاربه ومكوناته العرقية وعاداته وتقاليده، التي تجعل من الموروث التراثي المغربي خزَّاناً كبيراً يُغني ويُقوِّي ثقافة التعايش بين مختلف المرجعيات الدينية والعرقية والفكرية في سياقها الإنساني التكاملي .
في البداية وجبت الإشارة، طرحاً و توضيحاً، بتحديد ما نعني بالصحراء، إذ يتعلق الأمر بهذا المجال المحوري الممتد من واد درعة وبلاد سوس جنوبا وهو المنبع الأساسي للتركيبة البشرية والثقافية في منطقة غرب الصحراء التي تنتمي إليها موريتانيا وامتداداتها في منطقة أزواد وبلاد أروان. وما نعنيه هنا بإفريقيا هو أساساً السودان الغربي وفق التسمية الإسلامية الوسيطة أي بلدان غرب إفريقيا المسلمة من تمبكتو إلى كانو في نيجيريا.
إن هذا الامتداد التاريخي والجغرافي هو الذي يفسر طبيعة الديناميات الكبرى في تاريخ المغرب من دولة المرابطين، التي انطلقت من صحراء الملثمين ) في شواطئ موريتانيا)، وأصبحت مدينة مراكش عاصمتها الكبرى، ومنها انطلقت للسيطرة على أغلب مناطق الغرب الإسلامي بما فيها الأندلس، والحملة السعدية إلى تمبكتو التي كان لها تأثير سياسي وثقافي عميق على المنطقة ، وصولاً إلى استراتيجية الدولة العلوية في بناء حزام نفوذ وتحالف قوي في إقليمي جنوب الصحراء وبلاد السودان.
وِفْقَ هذه الخلفية التاريخية التي تعزَّزَت مع نُخب الحركة الوطنية في المغرب وإفريقيا ،عمل المغرب في السنوات الأخيرة على توطيد علاقاته الاستراتيجية بمحيطه الإفريقي الذي يشكل بوابته الجيوسياسية الطبيعية ، في الوقت الذي يعتبر المغرب المنفذ الحيوي لبلدان المنطقة إلى أوروبا والشرق الأوسط.
ولقد اعتمدت المملكة المغربية في تبني وتنزيل هذه الاستراتيجية على مرتكزات أربعة هي :
– الرجوع النَّشِط إلى النظام الإقليمي الإفريقي باستئناف العضوية في الاتحاد الإفريقي سنة 2017 ، مع العلم أن المغرب من مؤسسي المنظمة الإقليمية الإفريقية الأصلية ) منظمة الوحدة الإفريقية)، ويعني هذا القرار ترك سياسة المقعد الفارغ وتوظيف العلاقات المغربية الإفريقية القوية في الدفاع عن مصالح المغرب العليا، بعد أن اقترحت المملكة المغربية حلاًّ واقعياً وجدياً لملف « الصحراء المغربية »، تمثَّلَ في صيغة الحكم الذاتي، الذي يراعي خصوصية الإقليم وروابطه السيادية مع المغرب، بما نال قبول جل الدول الإفريقية التي زاد عدد تمثيلياتها القنصلية، علاوةً على دول عربية وأجنبية، في كل من العيون والداخلة ليصل إلى 20 قنصلية في انتظار المزيد من التمثيليات الدبلوماسية العربية والأجنبية بالمنطقة. ولم يكتف المغرب بالرجوع للاتحاد الإفريقي، بل سعى إلى توطيد حضوره ودوره في المؤسسات والأجهزة الإقليمية المختصة وترشح لعضوية المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (سيداو) التي يرتبط بعلاقات اقتصادية مع البلدان المنتمية لها.
– تدعيم الروابط الدبلوماسية والسياسية على أعلى مستوى مع بلدان إفريقيا، بما عبرت عنه الزيارات المتكررة التي قام بها العاهل المغربي لدول القارة من غربها إلى وسطها وجنوبها. وهكذا زاد عدد زيارات الملك محمد السادس لدول جنوب الصحراء على أربعين زيارة شملت أغلب بلدان القارة، بما يعكس قوة الروابط بين المغرب والدول الإفريقية التي أصبحت تَعتَبِر المغرب قاعدة ارتكازها الاستراتيجي على خطوط التماس مع العالمين الأوروبي والأمريكي وبوابتها على المجالين المتوسطي والشرق أوسطي. وهنا يتعيَّن التنبيه إلى دور الدبلوماسية المغربية النشط في حل الأزمات الإفريقية ودعم جهود دول المنطقة في مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف، بما تعكسه الجهود المبذولة حالياً في التقريب بين الفرقاء السياسيين في مالي وانجاح المرحلة الانتقالية التي دخلت فيها البلاد منذ الانقلاب العسكري الأخير .
– بناء علاقات اقتصادية وشراكة تنموية حقيقية مع بلدان القارة الإفريقية في مجالات متعددة ومتنوعة، من خلال توقيع المملكة المغربية لما يزيد على عشرات اتفاقيات الشراكة والتعاون مع دول المنطقة، تركزت في مجالات الاتصالات والمصارف والتأمين والنقل الجوي والتصنيع والطاقة، حيث وصلت نسبة الاستثمارات المغربية في إفريقيا إلى حوالي 85 بالمائة من حجم الاستثمارات المغربية الخارجية، وحقَّقَ ارتفاع التبادل التجاري بين المغرب وبلدان جنوب الصحراء نسبة 68 بالمائة ما بين 2008 و2018 ،وتضاعفت صادرات المغرب إلى دول غرب إفريقيا ثلاثة أضعاف في الفترة ذاتها . إن هذه المكاسب قد جعلت المغرب في صدارة المستثمرين الخارجيين في القارة وهو الشريك التجاري الأول لبلدان غرب إفريقيا. وعلى الرغم من أزمة جائحة كورونا الحادة، و التي ضربت الاقتصاد العالمي وأثرت على أوضاع وإمكانيات كل الدول بما فيها العظمى، لم يُدِر المغرب ظهره للقارة الإفريقية، فقدم مساعدات طبية عاجلة لخمسة عشر دولة من دول المنطقة الأكثر احتياجاً في أوج جائحة « كوفيد 19 » العالمية.
– تنشيط العلاقات الروحية والثقافية بين المغرب ودول القارة الإفريقية، استناداً إلى موروث صلب وعريق يشكل قوة ناعمة وداعمة تاريخياً لوجود المملكة في محيطها الإفريقي. ففضلاً عن مراكز العلم والتصوف والزوايا الدينية المرتبطة بكبريات الحواضر العلمية المغربية قديما وحديثاً، استحدث المغرب في السنوات الأخيرة عدداً هاماً من المؤسسات، واتخذ العديد من المبادرات بتوطيد علاقاته العلمية الدينية مع بلدان القارة ،بما تكرسه على الأخص مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تأسست عام 2015 وأصبح لها فروع في جُل دول إفريقيا المسلمة، علاوةً على تكوين مئات الأئمة والمرشدين الأفارقة في ” معهد محمد السادس لتدريب الأئمة والمرشدين والمرشدات ”، مع الجهود الهامة التي تبذلها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية ومعهد الدراسات الإفريقية بالرباط، علي مستوى نشر التراث العلمي والديني الإفريقي وتنظيم المؤتمرات والندوات العلمية الرفيعة في الموضوعات والاهتمامات المشتركة إفريقياص ودولياً .
إنَّ هذه المعطيات التي تبين عمق الحزام الاستراتيجي الإفريقي للمغرب، تُحدد موضوعياً إطار العلاقات الخاصة بين موريتانيا والمغرب من حيث هما شريكان متكاملان، تجمعهما أواصر التاريخ والجوار والتوجهات الاستراتيجية المتشابهة والمصالح المشتركة. وقد سبق وأن عبَّر الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني والملك محمد السادس في مناسبات عديدة عن هذه المقاربة التي يجب ان لا تغيب عن الحس الاستراتيجي لنخب البلدين الشقيقين.
الروابط الروحية المغربية ـ الإفريقية : جذور تاريخية عميقة وأُفق مستقبلي واعد.
تعود علاقة المغرب الروحية والدينية والهوياتية مع إفريقيا إلى قرون، فرغم قربه من أوروبا وتميزه بتمازج الهوية الأمازيغية والأندلسية والعربية، إلا أن الهوية الإفريقية حاضرة دائما. حيث تضل القارة الإفريقية الفضاء الطبيعي الذي يحدد الطبيعة الجغرافية للمغرب. وتمتد علاقة المغرب مع جنوب الصحراء منذ قرون خلت، وعرفت تبادل سفراء وممثلي دول وهدايا وهبات وتبادلات اقتصادية، خاصة في عهد بعض السلالات الحاكمة كالمرابطين والموحدين والسعديين، الذين امتد حكمهم إلى إفريقيا الغربية كما هو الشأن في عهد المنصور الذهبي. و في عهد العلويين استمرت العلاقات بين المغرب وبقية الدول الإفريقية، بل وانتعشت مع انتشار التصوف وتأثير الزوايا الدينية على العديد من الدول الإفريقية وازدياد أتباعها ومريديها هناك.
لقد ظَلَّ البعد الديني الروحي حاضراً في العلاقات المغربية ـ الإفريقية، بمساندة امتداد تأثير العديد من الزوايا التي انتشرت فروعها بالعديد من الدول الإفريقية، وخاصة الزاويتين القادرية والتيجانية، بالإضافة إلى انتشار المذهب السني المالكي الذي يتبناه المغرب والمعروف عنه الوسطية والاعتدال، وسيادة قيم التسامح والانفتاح على الآخر، ما ساعد أيضا في انتشاره بالعديد من دول غرب إفريقيا. ولا زال إلى اليوم يعتبر المغرب مرجعاً دينياً للعديد من الأمم والدول الإفريقية.
كما كرَّست هذه الروابط الزيارات الأخيرة والمتتالية لملك البلاد، جلالة الملك محمد السادس، والذي يعتبره العديد من المتصوفة الأفارقة أميراً للمؤمنين ومرجعاً دينياً وزعيماً روحياً،اعتباراً لكونه سليل الدوحة النبوية الشريفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، وعلى هذا الأساس تم بالمغرب وبرعاية ملكية سامية، تكوين العديد من الأئمة الأفارقة وترميم وإصلاح عدد من المساجد والمدارس القرآنية، وطبع وتوزيع مئات الآلاف من نسخ القرآن الكريم. كما تم تقديم منح لطلبة قادمين من دول إفريقية مختلفة قصد متابعة تكوينهم في مختلف الجامعات المغربية بما فيها الأكاديميات العسكرية، بالإضافة إلى أنه جرت العادة على توجيه دعوات دائمة للعلماء والفقهاء الأفارقة للحضور والمشاركة في الدروس الدينية، التي ينظمها الملك كل سنة خلال شهر رمضان والمعروفة بالدروس الحسنية.
وقد ارتكز المغرب على هذا النفوذ والحظوة الدينية عند الأفارقة وأصبح يعتمد عليها في تحسين علاقاته الدبلوماسية مع العديد من الدول. وعلى هذا الأساس تمَّت إعادة صياغة علاقات جديدة ومتجددة مع الزاوية القادرية وأيضا التيجانية، وتم عقد ملتقى المنتسبين للطريقة التيجانية في كل دول العالم بالعاصمة الثقافية والروحية للمغرب فاس، ويعتبر العديد من الأفارقة أن زيارة المغرب والزاوية التيجانية واجباً دينياً وروحياً. وإلى الآن تعتبر مدينة فاس وضريح سيدي أحمد التيجاني مزاراً ومحجّاً للعديد من المريدين والوفود الآتية من غرب وجنوب إفريقيا.
ولأهمية الدبلوماسية الروحية الموازية ودورها في الحفاظ على استمرارية العلاقات بين المغرب وإفريقيا، فإن المنظومة الدينية والمجالس العلمية ورابطة العلماء ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والأحزاب والجمعيات وكل مؤسسات المجتمع المدني، مطلوب منها العمل أكثر بالموازاة مع عمل الجهات الرسمية في هذا الإطار، وخاصة وأن هناك منافسة مغاربية على النفوذ الديني والروحي في إفريقيا.
ليبقى الهدف المحوري من السالف عرضه، هو العودة إلى تعميق العلاقات الطبيعية التي سادت بين المغرب والدول الإفريقية منذ قرون خلت. والتي هي بالأساس علاقات شعوب وحضارة وأفراد ينتمون لنفس الأرض ويتشاركون نفس الطبيعة والهوية والعرق.
أهمية العلاقات الاقتصادية المغربية ـ الإفريقية
لقد عمل المغرب على تعزيز شراكة تضامنية مع إفريقيا – نتيجة الروابط الثقافية والانتماء الجغرافي – من خلال إطلاق زيارات متبادلة، هدفها الأساس دفع قاطرة الاقتصاد والتنمية، واحتلت إفريقيا أولوية السياسة الاقتصادية الخارجية المغربية، مع الأخذ في الحسبان البعد التنموي، وليس الاقتصادي فقط، على الرغم من أن المغرب بات عضواً في الاتحاد الإفريقي. وعمل على تشجيع الاستثمار الخاص في إفريقيا، والانفتاح الاقتصادي عليه، مما جعل المغرب ثاني أكبر بلد إفريقي مستثمر في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا.
إنَّ الدينامية الاقتصادية المغربية في إفريقيا من شأنها أن تقدم العديد من الحلول الاستراتيجية والبعيدة الأمد، بل في أحيان كثيرة حلولاً جذرية للعديد من المشاكل التي تعاني منها القارة الإفريقية، ويوقف نزيف الهجرة التي تعرفها القارة نحو “الشمال المتقدم”. لتبقى هناك تحديات كبرى للدبلوماسية الاقتصادية المغربية في إفريقيا، من بين أهمها، أنَّ إفريقيا تعاني من تدني مستوى البُنى التحتية بل وانعدامها في العديد من المناطق، لذلك سيسعى المغرب، عبر العديد من المبادارت الوازنة، إلى لعب دور مركز التقاء للعلاقات الاقتصادية بين القارة الإفريقية والشركاء الأوروبيين والشركاء العرب خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، وربما أيضًا مع بعض الشركاء في الشرق الآسيوي.