– أنت مجنون، توقف.. أنت تضيع وقتك في كتابة القصص… من يقرأ لك في زمن التكتوك والإنستغرام؟
– ههه.. جميل أن أراك تتهمني بالجنون، فهذا يعني لي أنني لست نمطيًا ومسطحًا مثلك.
– لو فرغت طاقتك وذكاءك في الجري وراء المال وحده لكان أفضل.
– لدي ما يكفيني يا حبيبي.. المال، ابحث عنه وحدك.
كانت أمثال هذه المحادثات تتردد في ذهنه كل يوم، لكنه لم ولن يتوقف عن الكتابة، ببساطة لأنه متيم، بل مجنون بها!
ها هو ذا يجلس في زاوية مقهاه المعتادة، ويراقب الناس وهم يمرون. في كل مرة، كان يرى في كل وجه قصة تنتظر أن تُكتب، وفي كل حركة حياة تستحق أن تُسجل.
# ما أكتبه الآن غير مهم، ولكن يوماً ما سيصير إرثاً لأبنائي. لذلك أصر على الكتابة في زمن اللاقراءة وطوفان الجهل #
ها هو ذا من جديد يفتح دفتره ويبدأ في الكتابة:
” إن يوماً واحداً يمر دون أن أقرأ جزءاً من كتاب أو أخط بيميني عدداً من السطور أو الصفحات هو يوم تعيس، لا قيمة له “
و تذكر حينها قول مارك مانسون: “المعاناة جزء من الحياة، وهي الطريق إلى النمو الشخصي.” وفكر في هذا القول وهو يرى كيف أن الكتابة كانت وسيلته لتحمل الصعاب والتغلب على التحديات، لأنها في نهاية المطاف كانت وستظل بالنسبة له رحلة عظيمة نحو سبر أغوار الذات وفهم أعمق للحياة.
وفي لحظة خاطفة لكنها تكاد تكون سرمدية بالنسبة إليه استحضر مقولة نجيب محفوظ: “القصة هي البحث عن الحقيقة في بحر الأكاذيب.” وخاطب نفسه: لهذا انا مصر على كتابة القصص.. اقص و اقص و اقص مقاوما زيف العالم و بؤسه اللامحدود، و لهذا سأبحث عن تلك الحقيقة في كل قصة أكتبها، وسأجري وراء فهم العالم من خلال الكلمات.
و مرت ساعتان وهو جالس في المقهى، غاطس في القراءة والكتابة، ثم أشعل بروح تملؤها السخرية، فقط في خياله، سيجارة وبدأ ينفث دخانها بهدوء.
و تذكر صديقه علي الذي كان يقضي يومه في تدخين السجائر والاحتفال بسهر الليالي. وقال لنفسه: “بالنسبة لي، الكتابة حصنتني من كل تلك العادات السيئة ووقتي كله ذهاب و إياب مستمر بين المقهى والمدرسة حيث ألقى كل يوم تلاميذي و فلذات كبدي.”
كانت تلك اللحظات التي يقضيها في الكتابة هي ملاذه الأثير، و ما يسمح له ببناء نفسه و ترميم روحه في زمن اللايقين..
اي نعم، زمن اللايقين، و الفراغ.. لذا وجب على كل مستنير ان يقاوم ظلامية هذا الزمن، و يصنع نفسه بنفسه: بالقراءة، بالتعلم، بالفعل الهادف، و لعل جان بول سارتر اذا كان حيا يرزق لساند هذه الفكرة بمقولته الشهيرة :
“نحن نصنع أنفسنا بما نفعله.” و لعله ايضا زاد و ابتسم، لأن الكتابة هي ما يصنع الإنسان و يرفع من طموحه..
و مرت ساعة ثالثة بمجلسه المفضل في المقهى و بدأ حضرة الكاتب الموقر يتذكر حواراته مع أصدقائه، بعبارة اخرى تلك النقاشات العميقة و العقيمة احيانا حول الحياة و المعنى.
قال له أحدهم ذات يوم : “إذا كنت تبحث عن السعادة، فأنت لن تجدها في المال أو الشهرة. السعادة تأتي من فعل ما تحب ومن العيش بما يتفق مع قيمك ومبادئك.”
كانت تلك الكلمات تذكيرًا له بأن الكتابة هي شغفه الحقيقي، وأنه يجب أن يستمر فيها مهما كانت الصعوبات.
و في يوم من الأيام، بينما كان يعيد قراءة إحدى قصصه، تذكر مقولة مارسيل بانيول: “الكتابة هي الوسيلة التي يمكننا من خلالها أن نعيش ألف حياة.” و هنا، شعر بمدى صحة هذا القول، فقد عاش من خلال قصصه حيوات عديدة، الف حياة في حياة، و تجارب مختلفة، و رحلات لا تُنسى.
و أخذ كاتبنا نفساً عميقاً و جال و صال في أفكاره، مستحضراً هذه المرة بالذات كلمات رنانة من احدى مؤلفات فرانز كافكا: “الأدب يجب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد في داخلنا.”
و بالفعل، لقد كانت كتاباته هي ذلك الفأس الذي يحطم جمود الروتين والحياة اليومية، لانها تفتح له أبواب عوالم و اكوان جديدة.
و لم ينس كاتبنا ان يستحضر في مجلسه المنفلوطي وأسلوبه الأدبي الرائع حين كتب : “الأدب مرآة النفس وصورة الشعور..”
و هنا بالذات فكر الكاتب في مدى ارتباط مشاعره بما يكتب، وكيف أن كلماته تعكس في اغلب الاوقات أعماق نفسه و تجاربه الشخصية.
و مرت اعوام اخرى، و ظل صاحبنا مستسلما لسحر و سطوة الكتابة، و ظل يحفر في أعماق ذاته باحثا عن تلك الجواهر المخفية في بحر الحياة. و كان يعرف أن ما يكتبه اليوم قد لا يُفهم أو يُقدر ، ولكنه كان على يقين بأن يوماً ما، سيقرأه أحدهم، وربما يجد في تلك الكلمات بعض العزاء و الإلهام.
و كان صاحبنا يردد في نفسه دائماً قول جلال الدين الرومي: “الكلمات التي تُكتب بصدق هي تلك التي تجد طريقها إلى القلوب.” وكان يأمل أن تصل كلماته إلى قلوب أبنائه، وأن تكون لهم نبراساً في طريق الحياة.
و في نهاية ما تبقى له من ايام على وجه الارض، كان كاتبنا المبجل يغلق دفتره بابتسامة راضية، ويعود إلى منزله، و كان يعلم أن رحلته مع الكتابة ما زالت في بدايتها، وأن هناك الكثير من القصص التي تنتظر أن تُحكى، و كان دوما يشعر بالفخر بما يكتبه، ويعرف أن كلماته و قصصه هي الإرث الحقيقي الذي سيتركه لذريته حينما ينتقل الى دار البقاء من دار الفناء..
* خبير الذكاء الاصطناعي و الرقمنة، كاتب و استاذ باحث