“محمد يا حبيب الله. أنت خير الورى. عليك صلوات ربي.
أبي، أحبك بجنون يا أبي. أنت ابن النبي.
الحمد لله على كل شيء. الحياة قد تكون صعبة، لكنها معجزة المعجزات.
ما أروع وأجمل هدوء هذه اللحظة. قمر ١٤.. إنه بهي ريان كامل الاستدارة. ولعل بدر هذه الأمسية يذكرني بمنتصف خمسينيات القرن الماضي حينما رأى المغاربة ملكنا الحبيب محمد الخامس في قرص القمر لشدة اشتياقهم له وهو في منفاه.
أبي.. أنا لا أرى في ضوء القمر الناصع إلا وجهك الجميل…
يا أبي، بعد الله عز وجل، أنت السبب في بقائي على قيد الحياة، وبفضل حبك اللامشروط وحنانك المنهمر الفياض أنا هنا أكتب هذه الكلمات.
هل تذكر كيف كنت تركض بين العيادات كالمجنون، بينما أنا بين الحياة والموت، ملقاة على مشرحة العمليات ومشارط الأطباء تخترق رأسي؟
هل تذكر الشك والحزن والبكاء وطريق الآلام يا أبي؟”
اناخ الليل بكلكله على المدينة وعم الهدوء الساحر المكان. وبدأت الرياح تعزف سيمفونية الخلود، حين جلست فيروز في شرفة البيت تتأمل السماء المرصعة بالنجوم.
فيروز، فتاة عزباء. ٤٠ سنة. تعيش مع والديها، وتملأ حياتها ثلاثة أشياء أساسية: الأفلام الأمريكية، روايات باولو كويلو ونجيب محفوظ، وشغف جنوني بالتكنولوجيا.
“الوحدة؟! لا أعترف بها بتاتا.. إنها غير موجودة في قاموسي وفي اللايف ستايل الذي أتبعه!”
لم تشعر فيروز يوماً بالوحدة، فقد كانت تعتبر الروايات بناتا لها بل الينابيع التي تسقي بانتظام روحها العطشى دواماً للعلم والتعلم.
كان هواء الليل منعشاً عظيم الطراوة، و كان هناك سيل من الذكريات يتدفق كالشلال الهادر في رأس فيروز :
“لعلي بالنظر لصغر سني قد حطمت الرقم القياسي في عدد العمليات الجراحية التي أجراها لي الأطباء مذ كنت في سن السادسة عشرة إلى حدود ربيعي الثلاثين. ٦ عمليات جراحية في الرأس. يا إلهي! لكن، الحمد لك من قبل ومن بعد.”
وكانت فيروز في جميع مراحل حياتها الصاخبة المضطرمة بلهيب الآلام.. آلام العمليات ومضاعفاتها.. كانت مؤمنة بالشفاء وبحلول البركة في حياتها ولكن تفاؤلها ولحسن الحظ كان معتدلاً.
ولعل ما يدعمه استحضارها المستمر لأفكار الفيلسوف الرواقي سينيكا :
* ما يدفعنا إلى الغضب والتألم والإحباط من الحياة هو التفاؤل المبالغ فيه تجاه الأشياء،
* ما الغضب؟ ما هو في واقع الأمر إلا أفكارٌ مغرقة في التفاؤل بشأن ماهية الناس والعالم،
* يجب أن تبقى في ذهننا على الدوام احتمالية وقوع كارثة ما في أي لحظة !
كانت إذا أفكار الفيلسوف سينيكا موشومة بدقة في ذهن فيروز. وكانت حافزها لمواجهة عبثية الحياة وطبيعتها الهشة المنزلقة.
و كانت أيضاً بالنسبة لها أكثر من أفكار فلسفية فهي دعوة للتأمل العميق في ماهية الحياة مع التسليم بمعطيات الوجود والابتعاد عن الأحلام الوردية.
و تجسدت فلسفة سينيكا بعمق في شتى محطات حياتها. فها هن بنات خالاتها قد تزوجن في سن مبكرة ولم يحصدن من الحياة الزوجية إلا المرارة والندم. ومن المؤكد أنهن بلا استثناء أقدمن على الزواج دون اختيار الشريك المناسب، وأنهن كن لا محالة واقعات تحت تأثير المسلسلات التركية التي تمجد بشكل وهمي خادع قبلات العشاق وغزواتهم الغرامية التي لا تنتهي.
وكانت فيروز تؤمن بقدسية الرباط المتين حين تتأمل الزواج المبارك والناجح لوالديها.. ولكن، على صعيد آخر، كانت فيروز ترى أن الزواج لم يعد مفيداً في مجتمع 2024 الذي لم يبق فيه إلا أرباع النساء وأشباه الذكور وأنصاف الرجال.
وبرغم كل شيء، كانت فيروز مرحة خفيفة الظل صاحبة نكتة وكانت البسمة لا تفارق شفتيها الريانتين.
ولم تكن فيروز تحتاج في عزوبتها للرجل لتشعر بالاكتمال، فحياتها كانت مليئة بتجارب قاسية جداً جعلتها تكتوي بنيران الحياة في سن مبكرة وتصبح “سوبر وومان” وهي لم تصل بعد إلى سن الثلاثين.
أخذت فيروز من فنجان قهوتها السوداء الرشفة قبل الأخيرة، وفي مجلسها الهادئ الغارق في سكون الليل بشرفة البيت راحت تفكر :
“قبيل بلوغي السادسة عشرة بدأت معاناتي الطويلة مع مشاكل الغدد. وأنت تذكر يا أبي أني خضعت لنصف دزينة من العمليات الجراحية، وأنك كنت تنفق الملايين على علاجي، راكضاً بين عيادات الأطباء كالمجنون.”
وتذكرت فيروز الليالي الطويلة التي قضتها في المستشفى، بين العملية الجراحية الأولى والثانية والثالثة، وصولاً إلى السادسة.
وتذكرت بالخصوص والدها البشوش المكافح الذي كان دائماً بجانبها، يدعمها، ويشجعها، ويعطي الغالي و النفيس، بل يصرف كل ما يملك لأجلها.
وقبيل انبلاج الخيوط الأولى للفجر احتست فيروز آخر قطرة من قهوتها الباردة، ومسحت بيمناها على شعرها المرخي بسواده الغامق على ما تبقى من الليل البهيم وما انقشع في الأفق من نور الفجر.
و همست فيروز لنفسها :
“الحياة ثمينة، وكل يوم ينصرم هو معجزة بحد ذاته. هناك من يعتبر أن الحياة لا شيء، لكنها في العمق معجزة المعجزات.