تعال معي في رحلة جديدة نكتشف من خلالها كيف للذكاء الاصطناعي ان يسرع و يجود عملية القراءة. لكن، قبل خوض غمار هذا السفر الماتع و الشيق، دعني اهمس في اذنك :
- في زمن التفاهة و تكاثر مقاطع الفيديو السخيفة على الفيسبوك و تيك توك و عدد اخر من المنصات و حصدها لملايين المشاهدات على حساب المحتوى الجاد الذي يكاد لا يلتفت اليه احد.. في زمن الرداءة و نهاية الانسان و سرقة الالات لذكاء بني البشر.. في الازمنة الصعبة لاحتضار المعرفة الحقة و تهميش رجالات الفكر و اعلاء شان اشباه الفنانين.. في هذا الزمن البخس، لا تياس.. اقرا، بل لا تتوقف عن القراءة، فأنت لا تدري بعد أي كتاب طالعته سينبت لك عقلٌ جديد و رؤية جديدة للعالم و الاشياء.. ان كل كـتابٍ تقرأه سيأخـذك خـطوة أعمق نحو سبر اغوار نفسك
- ان ترك السمارتفون جانبا لبضع من الوقت و ممارسة الادمان على فعل القراءة سيكون شاقا في البداية، لكن مع تكرار المحاولة تلو الاخرى سيصبح الامر في غاية البســاطة.
- تذكر امرا شديد الاهمية : الإنسـان كائن قارىء بالامر الالهي المقدس ( اقرا باسم ربك الذي خلق [ صدق الله العظيم] )، فالانسان يقرأ نفســه و يكتشف عالمه الباطني بفضل المطالعة المستمرة للكتب. و من خلال الكتب، انت و انا.. نحن جميعا، نوجد و نحيا و نحس بشساعة العالم و عظمة الكون..
- كل كتاب سيُعلمك شيئًا جديدًا و فكرة مبتكرة لم تخطر قط على بالك.. ان كل كتاب تطالعه سيساعدك حتما على أن تنظر إلى الأمور بشكل مختلف.
و بناء على كل هذا اسمح ان اشاركك النصائح الذهبية التي يكررها على مسامعنا بيل جيتس لاجل تحقيق الاستيعاب الافضل و الامثل للمعلومات الاساسية داخل كل كتاب :
١ / احمل دائمًا في جيبك مفكرة صغيرة لكتابة الملاحظات وأهم الأفكار التي تضمها الكتب و التي تستطيع الرجوع إليها بسهولة بدلاً من قراءة الكتاب مرةً أخرى أو محاولة تذكُّر أين وردت تلك المعلومات
٢ / خصص 60 دقيقة على الأقل يوميًا للقراءة قبل النوم حتى ترفع لديك مستويات التركيز. ان الهدف الاسمى من القراءة المنتظمة يتجلى في تجنب تشتت الافكار واستغلال كل الدقائق الإضافية التي تحصل عليها للتركيز في كل كتاب تقرأه.
٣ / اقرأ كل كتاب من الالف الى الياء متجنبا عدم إكمال ما بدأت حتى لا تكوّن وجهات نظر أو أفكارًا ناقصة، و لتحقيق هذا الأمر سيتوجب عليك أن تُعد قائمة بكل الكتب التي ترغب في قراءتها مُسبقًا، وستتعلم بمرور الوقت أن تكون شديد الانتقاء في قراءاتك.
و الان، بعد هذه المقدمة الوافية و الكافية، و في خضمّ ثورة التكنولوجيا المتسارعة، كيف للذكاء الاصطناعي كجزء لايتجزا من الثورة الرقمية ان يسهم في تسريع و تبسيط و تجويد عملية القراءة ؟
لا شك ان الذكاء الاصطناعي يبرز كأداة ثورية تُغيّر مختلف جوانب حياتنا، بما في ذلك عاداتنا في القراءة. ففي زمنٍ باتت فيه المعلومات تاتي اليك ” قبل ان يرتد اليك طرفك”، ثمة سؤال ملح يطفو على السطح، بل يفرض نفسه بقوة : كيف يمكننا الحفاظ على ثقافة القراءة العميقة والتفكير النقدي في ظلّ هيمنة ربوتات و تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال الوجيه من المفيد ان اضع بين يديك نقاط القوة التي يدعم بها الذكاء الاصطناعي فعل القراءة :
. سهولة الولوج إلى المعرفة: يُتيح الذكاء الاصطناعي إمكانية الوصول إلى كم هائل من الكتب والمقالات والموارد التعليمية بضغطة زر. فمن خلال محركات البحث وتطبيقات القراءة اونلاين، يمكننا العثور تقريبا على أي كتاب نرغب به، بغض النظر عن الحواجز الجغرافية و البشرية و اللغوية.
. التخصيص: يُقدّم الذكاء الاصطناعي توصيات مخصصة للكتب بناءً على اهتماماتنا وسلوكاتنا في القراءة. فمن خلال تحليل بيانات القراءة لدينا، يمكن للأنظمة الذكية ان تقترح علينا مجموعة من الكتب تنال اعجابنا و تحقق لنا الاستفادة على نحو مذهل و مدهش لا يمكن تخيله.
. تحسين تجربة القراءة: تُوفّر تطبيقات القراءة المعززة بالذكاء الاصطناعي ميزات تُحسّن من تجربة القراءة، مثل إمكانية تغيير حجم الخط ولونه، والبحث عن الكلمات، و ترجمة و توسيع النصوص، وإنشاء الملاحظات.
. تعزيز التفاعل: تُتيح منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات القراءة عبر الإنترنت فرصة التفاعل مع قراء آخرين ومناقشة الكتب التي نقرأها، مما يُثري تجربة القراءة ويُحفّز على تبادل الأفكار.
و الى جانب هذه الامتيازات العظيمة التي نبشر بها وجب ان ننذر بالصعوبات و التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على فعل القراءة، و هي كثيرة تكاد لا تحصى، و لكن نذكر منها ما يلي :
. التشتت: قد تُؤدّي كثرة المعلومات والتنبيهات المُقدّمة من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومواقع التواصل الاجتماعي إلى تشتت انتباهنا وصعوبة التركيز، و هذا من شانه لا محالة ان ينسف القراءة العميقة و يفتح الباب امام الاطلاع السطحي و الساذج على المعلومات.
. السطحية: قد تُشجّع سهولة الوصول إلى المعلومات التي تسمح بها تطبيقات الذكاء الاصطناعي على القراءة السريعة البعيدة كل البعد عن التاني و التمهل و معاودة القراءة لاجل الاستزادة و الاستفادة، و بذلك يضيع العمق في تحليل المضمون و استيعاب الأفكار.
. الاعتمادية المفرطة: هل لاحظت معي في الشهور الاخيرة اعتماد الملايين من زوار الانترنيت على ربوتات المحادثة او ما يعرف بالذكاء الاصطناعي التوليدي (تشات جي بيتي، جميني، كلود.. و غيرها..)، لتوليد عدد ضخم من الافكار الابداعية في ثوان معدودة، ناهيك عن تلخيص الكتب و تحرير المقالات، بل و حتى كتابة الخواطر و الاشعار و القصص و سيناريوهات الافلام ؟؟!! ، و كل ذلك طبعا في ثوان معدودة !!
يا الهي.. اوه.. لقد اصبح الخيال العلمي في صميم و قلب الواقع العلمي المعيش !
ان الاعتمادية المفرطة على الذكاء الاصطناعي (التوليدي) لتلخيص الكتب أو استخلاص المعلومات قد يُضعف مهاراتنا في التفكير النقدي السليم والتحليل المنهجي الدقيق و العميق للنصوص. ان هذا الراي ليس ادعاء بل يجب ان ينظر اليه كحقيقة اكيدة.
. خطر التضليل: لعلي اريد ان اذكرك بمسالة خطيرة جدا؛ قد تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لنشر المعلومات المضللة أو المغلوطة، ممّا يتطلب منّا تعلم المهارات اللازمة لتمييز الحقائق من الآراء المُزيّفة و غربلة الغث من السمين، في زمن تضليل التكنولوجيا و ” هلوسات” الذكاء الاصطناعي.
و الان، دعني اطرح عليك السؤال التالي : كيف نقرأ بذكاء في زمن ” الذكاء الاصطناعي ” ؟
يمكن ان نلخص عناصر الاجابة عن هذا السؤال الحارق و ربما المستفز في ما يلي :
- اذكاء الوعي: يجب أن نكون واعين بالتحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على القراءة، ونُحاول الحدّ من تأثيرها السلبي على عاداتنا القرائية.
- الانتقاء: يجب أن ننتقي بعناية المصادر التي نستخدمها للقراءة، ونُفضّل الكتب والمواقع الموثوقة ذات المحتوى المُفيد و الهادف.
- التوازن: يجب أن نُحافظ على التوازن بين القراءة الإلكترونية والقراءة الورقية، فلكلّ منهما فوائده و ميزاته الخاصة.
- التفاعل: من المفيد ان نلبس قبعة المثقف العضوي المهووس بمواضيع الساعة و المهموم بقضايا الفرد و المجتمع. بعبارة اخرى، لنُشارك في مجموعات القراءة والمناقشة عبر الإنترنت، و هذا سيُساعدنا دون ادنى شك على فهم افضل للنصوص و تبادل اثرى و اشمل للأفكار.
الحديث طويل شيق لا ينتهي في موضوعات الذكاء الاصطناعي، لان هذا الاخير هو الحاضر و المستقبل و ما بعد المستقبل.. و لعلك وضعت معي في مساحة الضوء فكرة اساسية حاولت ان ادافع عنها منذ البداية : يُقدّم الذكاء الاصطناعي فرصًا رائعة لتعزيز ثقافة القراءة، لكنّه يفرض علينا في الوقت نفسه تحدياتٍ يجب مواجهتها بكثير من التاني و الحكمة. فمن خلال الوعي والانتقاء والتوازن والتفاعل والتفكير النقدي، يمكننا الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لخلق تجربة قراءة اكثر ثراء و حيوية.
*كاتب، استاذ باحث، خبير الرقمنة و الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط.