كلنا نعلم أن طنجة تقع في أقصى شمال المغرب على مبعدة 14 كلم من إسبانيا، لكن من منا طرح هذا السؤال على نفسه : أين تقع سيت، و ما علاقتها بطنجة ؟
و لعلمكم، تقع سيت جنوب فرنسا على الساحل المتوسطي غير بعيد عن مرسيليا. و باخرة “بلادي” المغربية تنطلق كل يوم من طنجة و على متنها مئات المسافرين نحو سيت في عبور بحري مدته 36 ساعة متواصلة، و أحيانا تصل “بلادي” إلى الشواطئ الفرنسية متجاوزة بساعة أو ساعتين هذه المدة حسب سكون البحر أو عدمه ،استقراره أو هيجانه.
صيف 2009…
ذاكرة مثقلة بالحنين، و الشغف بالترحال، و أجنحة النوارس، و عبير البحر…
على متن “بلادي” اشتغلت مروجا تجاريا لوسترن يونين… اشتغلت 3 أسابيع و ربحت قدرا لا بأس به من المال ، ساعدني في أن أصمد لبضعة شهور حتى أواصل بقوة مسيرة البحث عن عمل دائم.
كانت الباخرة هيكلا ضخما مكونا من 10 طوابق، و كانت كل مرة و هي تمخر العباب المصطفق بالأمواج ذات اليمين وذات اليسار أشبه بديناصور خرافي خرج لتوه من أعماق العصر الحجري…
و كان العمل في الباخرة موسميا بسيطا في أدائه لكنه منحني نصيبا من المتعة و الفرح الذي لا يضاهى.
و أجمل ما كان فيه اللقاء المستمر بأفواج متجددة من المسافرين، و متعة الذهاب و الإياب بين طنجة و سيت، بين بحر متلاطم الأمواج أحيانا، و آخر مسالم أحيانا أخرى، ناهيك عن المكوث يوما و نصف في البحر، و الرسو في اليابسة 5 أو 6 ساعات، أغتنم فيهن الفرصة للخروج من الباخرة، و النزول في أرض سيت لشراء بعض الحاجات من السوبرماركت، أو النزول ساعة الرجوع إلى المغرب في طنجة للتلذذ بأكل السمك المشوي في المرسى أو محادثة العائلة من المخدع الهاتفي للاطمئنان على الصحة و الأحوال.
ما الجدوى من تذكر كل ذلك الآن؟ و ماذا أجني من الإبحار في محيط الذكريات ؟
أين أنت يا سمير؟ هل تسمع صوتي و هو يناديك ؟ أجب، هل تسمعني ؟ رغم المسافة و عدم لقائنا منذ شهور مديدة، هل تحن مثلي إلى الزمن الجميل الذي مضى؟
أنا أذكر كل ساعة و كل دقيقة عشناها في الباخرة يا عبد الحق… أذكر كل لقطة كأن الأمس هو اليوم…
كيف لي أن أنسى ؟ كيف لي أن أنسى حضورك اللطيف و أحاديثك الفياضة بالود و نحن على متن الباخرة… ؟
كنا رجلين تتلألأ عيناهما بنشوة المغامرة و الوجود البوهيمي هنا، على متن “بلادي”.
كنا نورسين ينوء فؤادهما بحلم الرحيل…
الرحيل ؟
لماذا ؟ و إلى أين ؟
أن ترحل، يعني لك ذلك الكثير يا عبد الحق…
لقد شرحت لي أن مشروعك هو العودة إلى المغرب بعد ما يناهز 11 سنة قضيتها في الضفة الأخرى و أنا أحييك، و أشد على يديك، و أتمنى لك التوفيق و أدعو لك من أعماق قلبي الحنان المنان كي يجود عليك و يحقق لك مبتغاك…
لقد بات يخترقك شعور طاغ بالغربة في فرنسا، سيما و أن دراستك العليا انتهت و عملت بها ما شاء الله لك أن تعمل، و جبتها من أقصاها إلى أقصاها للسياحة و المؤتمرات و العمل، و صار حلمك أن ترحل من هنا و تقفل راجعا إلى المغرب، و كأي شاب يملك أحلاما كلاسيكية و معقولة صرت تحلم بإيجاد عمل، يعقبه زواج و استقرار و راحة بال…
و أن أرحل فمعناه أن أتسلل إلى أي بلد في الضفة الأخرى و أنجح في المكوث به و لو كعامل نظافة، أن أهرب من بلد صار يتقيأ أبناءه و يلفظهم لحيتان البحر.
البحر هو المجهول يا صاحبي…
البحر هو العميق، الهادر، الهائج، المائج، الغدار، النكار، و مع ذلك فهو رزق البحار…
أنت تعلم أني موسيقي. أنا في الباخرة مثلك أعمل عملا موسميا، و لعلي سيء الطالع، لأن مشغلي لم ينقدني درهما واحدا منذ أن بدأت العمل هنا، أي منذ 6 شهور. ستقول لي لا ضرر في ذلك، و لكني سأجيبك فورا “بلى، فهذا يخالف اتفاقنا الذي يقضي بصرف أرباحي نهاية كل شهر أعمله في الباخرة”.
اسمع يا عبد الحق، و على فكرة فأنا أحب اسمك لأنه يحيل إلى الحق الذي لن أقول لك غيره… اسمعني، منذ 5 سنوات و أنا أقتات على الأعمال الموسمية بالمغرب، و أتعرض كل مرة للاحتقار و سوء المعاملة وجشع المشغلين واستغلالهم و عدم صرفهم لراتبي في كثير من الأحيان، إن أفضلهم يمنحني ثلث الراتب أو نصفه…
كرهت نفسي و الناس و الحياة… بت أحس بالقهر و الغبن و تمنيت مرات و مرات أن تنشق الأرض و تبتلعني حتى أهرب من دوامة الظلم، و إنه لتعتريني يا صاحبي رغبة مجنونة جامحة في الفرار و النجاة بجلدي من هذا البلد…
اني أحلم أن تطأ قدماي يوما أرضا بها عدالة و كرامة و إنسانية. أين هذا الوطن ؟ و إن وجد فهل يموت فينا الوطن ؟
هل ترى ذهابنا و إيابنا طوال هذه المدة بين طنجة و سيت، فلا نحن نرسو هنا أو هناك، و لا نحن في فرنسا أو المغرب ؟ اني أشبه ما أكون بهذه الباخرة فليس لدي أدنى إحساس بالوطن…
تمزق و تشرد و انسلاخ و عدم انتماء…
و لم يا سمير ؟ لماذا تظلم الوطن؟ و لم كل هذا الحزن و اليأس ؟
و انصرم صيف 2009 بلهيبه، و بحره، و أسفاره ، و مشهد أسراب الدلافين النطاطة في عرض المتوسط، و أيام رمضان السبعة عشر التي صمناها على متن الباخرة، و أحاديثنا الليلية اللانهائية في الطابق العاشر للباخرة تحت قبة السماء المرصعة باللآلئ، و على أنغام الريح البحرية الخالدة، و إيقاع الموسيقى الساحرة التي كانت تتدفق من كمانك الحزين الذي يطابق نفسيتك حد التماهي، و رائحة السردين المقلي على سفرة الإفطار، و سحائب الدخان المعطر الطائر منا و نحن نلثم بحنان ثغور النراجيل…
عسل و توت و تفاح و ندية بصفاء البحر في يوم ساكن..
انقضى صيف 2009 و تلاه خريف 2010 و فوجئت ذات يوم و أنا أقرأ على الانترنت رسائلي الإلكترونية برسالة لطيفة منك تركت لي بين طياتها رقم جوالك على أمل التهاتف و اللقاء عما قريب.
و كان ذلك…
و التقينا في كازابلانكا و كعادتك كنت بحرا فياضا من الأحاسيس و كتلة ملتهبة من المشاعر و أنت تتحدث :
“هل تدري ما الذي حصل لي بعد أن أنهيت عملك على الباخرة و عدت أدراجك إلى باريس؟ لقد تسللت إلى سيت سباحة بعد أن رميت بنفسي من على الباخرة إلى البحر، في غفلة من أعين حراس الحدود و طاقم الباخرة.
كان الارتماء عنيفا، فلم أعد أدري كم مترا غصت في الأعماق، و أين يميني من يساري و فوقي من تحتي، و رغم ذراعي المنكسرة جراء قوة الارتطام، سبحت مستميتا مقاتلا مجاهدا الموج الهادر، و الماء الفتاك البرودة، و مصيري المجهول.
و بمعجزة الهية و عناية ربانية بلغت الشاطئ، و وطئت قدماي تراب سيت. ها هي ذي فرنسا في قبضة اليد، رغم كل شيء… و في الحال ألقى علي حرس الحدود الفرنسيين القبض، و نقلوني بكل إنسانية و لطف إلى أقرب مستشفى حيث لبثت بضعة أيام طلبا لجبر ذراعي المكسورة.
و كنت معذبا بين الألم و الوحدة و الغربة و الأمل الدفين في العودة إلى الوطن. و تم شفائي سريعا، و عدت إلى طنجة، و اصطبرت و رابطت شهورا سبعة بحثت أثناءها كالمجنون عن عمل، نهارا و ليلا، و ليلا و نهارا…
و أضاء لي نبراس الحظ، و وجدتني أعمل اليوم بدوام كامل كمسؤول تقني بإحدى شركات الحواسيب الشخصية.
قطران بلادي، يا عبد الحق، و لا عسل البلدان.
ما رأيك الآن في كل ما سمعت ؟؟؟ “
لم أحر جوابا، لقد فضلت الصمت.
و لم أنبس ببنت شفة
د. مهدي عامري
خبير التواصل و التنمية الذاتية
…