في ظل الإعداد والاستعداد لسنة انتخابية بامتياز بالمغرب، يمثل العام 2021 المجال الزمني المفتوح والشامل على مستوى إعادة تجديد كافة المؤسسات الدستورية المنتخبة، المحلية والجهوية منها والوطنية، وهي الرهانات التي تظل طاغية على الأجندة الحزبية لكافة الفاعلين في الحقل السياسي الوطني، كل حسب موقعه و تصوراته وكذا طموحاته في احتلال مراتب متقدمة في نتائج صناديق الاقتراع..فأية خريطة سياسية حزبية سوف تفرزها الاستحقاقات التشريعية التي تعتبر الميدان التنافسي الأكثر « شراسة » وتنافسية، على اعتبار أن الفائز بها تعطيه الوثيقة الدستورية أحقية تشكيل الحكومة ومن ثمة الإشراف المباشر على تدبير السلطة التنفيذية والتنزيل الإجرائي لصلاحيات ومقتضيات السلطة التنظيمية..؟
و ما الذي ستنتهي إليه الانتخابات المحلية والجهوية، في ظل تسريع المملكة عملية أجرأة مفاهيم « الجهوية الموسعة » و« اللامركزية » و »اللاتمركز »، التي باتت الرهان الأكبر للمغرب في ما يخص تحقيق مزيد من مشاهد وتجليات التنمية المستدامة الفعلية والملامسة لطموحات وتطلعات المواطن، بعيدا عن الشعارات وحرارة اللحظة الانتخابية..؟
تواجه الاستحقاقات التي ستعرفها المملكة المغربية السنة الجارية ثلاثة سياقات بارزة، أولها أنها ستجري في ظل استمرارية تفشي جائحة كورونا و آثارها الكارثية على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ثانيها هو المستجد الهام والمفصلي والمتعلق بقضية الصحراء المغربية ومدى انعكاساته بشكل خاص على تطور البعد الجهوي ضمن الخيار الاستراتيجي للدولة، وثالثها هو قرب تقديم « النموذج التنموي الجديد »، الذي اشتغلت عليه اللجنة المكلفة بصياغته منذ تعيينها من طرف الملك في 12 من دجنبر 2019.
وفي ظل هذه السياقات الثلاث، فإن رهانات الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021، تتجاوز مسألة تجديد مكونات مجلسي البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين) والمجالس الجهوية ومجالس العمالات والأقاليم و الجماعات الترابية الحضرية والقروية وكذا الغرف المهنية، إلى إفراز مؤسسات قوية تكون في مستوى رفع التحديات المطروحة، والمتمثلة تباعًا في حسن تنزيل مستجدات القضية الوطنية على مستوى مختلف القطاعات الحيوية، ومعالجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والصحية لأزمة « كوفيد19 » على جميع الأصعدة والمجالات الحياتية للمواطن المغربي. هذا علاوة على التنزيل الفعال والحقيقي لمختلف الأوراش التي ستفرزها وتطرحها الرؤية الشمولية للنموذج التنموي الجديد المنتظر من طرف مختلف شرائح ومكونات الشعب المغربي.
وفي هذا الإطار، سبق وأن قامت الأحزاب السياسية بتقديم مقترحات وتصورات بشأن الاستحقاقات المقبلة والقوانين المؤطرة لهذا الورش، وذلك من باب الحرص على إرساء العوامل الكفيلة بإنجاح هذه المحطات الانتخابية، كحلقة أساسية في ترسيخ المسار الديمقراطي بالمملكة من خلال إفراز مؤسسات ذات مصداقية قادرة على ترجمة خريطة انتخابية تعكس إرادة المواطنين والمواطنات، وتكون في مستوى الرهانات التنموية.
وقد همَّت مقترحات الهيئات السياسية، على العموم، الجوانب المتعلقة بالقاسم الانتخابي، والتقطيع الانتخابي ونمط الاقتراع، واللوائح الانتخابية، والعتبة الانتخابية والمالية، ولائحة النساء والشباب، والرفع من عدد المقاعد المخصصة للائحة الوطنية، والدعم العمومي، ومشاركة مغاربة الخارج، فكان إقرار مبدأ « القاسم الانتخابي » وإلغاء اللائحة الوطنية للشباب، وهما النقطتين اللتين أثارتا الكثير من النقاش واللغط خاصة داخل القبة البرلمانية.
وقد أدى النقاش حول القوانين الانتخابية إلى تجاذبات بين عدد من الأحزاب، أفرز لحد الآن تقاربات وعمليات تنسيق قد تتجاوز أحيانا منطق أغلبية / معارضة.
إنَّ الانتخابات القادمة، بحسب السيد محمد بودن، الأكاديمي والمحلل السياسي، تمثل في شموليتها تجسيدا للاختيار الديمقراطي كثابت في قواعد الدستور المغربي وروحه، كما أنها لحظة تستمد قوتها ومدلولها من ممارسة المواطن لحقه الشخصي وواجبه الدستوري عبر اختيار من يمثله في البرلمان الذي تنبثق عنه حكومة تدبر الشأن العام على أساس النتائج المحصل عليها، علاوة على اختيار المواطن لمن سيدبر شؤونه المحلية على المستوى الترابي جهويًا وجماعيًا.
وسبق وأن أبرز السيد بودن، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن أهمية هاته الاستحقاقات تنطلق من مسؤولية الاختيار لدى المواطن وقيمة الخيارات المتاحة أمامه من طرف الأحزاب على مستوى المرشحين والبرامج.
وتابع أن الاستحقاقات الانتخابية القادمة، بمختلف مستوياتها التشريعية، الجهوية الترابية والمهنية، ينبغي أن تكون، مطبوعة بالنظر إلى المستقبل والتموقع في الصلاحيات المخولة دستوريا لهذه المؤسسات والوحدات الترابية، بما يخدم المصلحة العامة ويدعم الجهد الجماعي لتملك نموذج تنموي جديد.
ولفت إلى “أننا أمام لحظة خاصة في التاريخ السياسي المغربي بفعل جائحة كوفيد 19 وما خلفته من تداعيات اقتصادية واجتماعية، وبالتالي فهاته الظرفية التي لم يُغلق قوسها بعد ينبغي أن تمثل تحديا للأحزاب السياسية بمختلف مراكزها”.
إنَّ رهان إنجاح الانتخابات المقبلة يظل مرتبطًا، أساسا، بالقدرة على تعبئة المواطنين من أجل جعلهم يؤمنون بالعملية الانتخابية والمساهمة في اتخاذ القرار، وهو الأمر الذي يستدعي بذل مجهود مضاعف والاجتهاد للبحث عن السبل الكفيلة لاسترجاع ثقة المواطن في العملية السياسية، من خلال تبني ممارسة تتسم بالوضوح والتعاطي المسؤول مع القضايا الأساسية.
وفي هذا السياق، اعتبر المحلل السياسي، محمد بودن، أن “الرهانات الحقيقية التي ينبغي أن تحكم أجندة الفاعلين السياسيين في الأمد المنظور تتمثل أساسا في تجديد النخب وتكييف البرامج مع الأولويات والتحولات وتعزيز المعاني الايجابية للعمل السياسي وتحفيز الشباب على المشاركة بصيغ منصفة وتجنب المعارك التي لا نتائج لها، وإنتاج مواقف يمكن تذكرها وتصحيح العلاقة بين المواطن والعمل الحزبي”.
إلى ذلك، يجب التشديد على أن العروض السياسية للفرقاء السياسيين في هاته المرحلة يجب أن تكون منسجمة مع الواقع ومبنية على معادلة أساسها المواطن وما يَحُول بينه وبين تحقيق طموحاته، على مستوى التعليم والصحة والشغل والسكن والحماية الاجتماعية، وبناء بدائل لا تنطلق من العموميات بل من القدرة على التوقع وبناء الأسس المنطقية بين الأقوال والأفعال.
ويتمظهر الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة من خلال تعديل النمط الانتخابي أو إبقائه، والذي له رهانات جد مهمة من خلال إعادة النظر في اللوائح الانتخابية، وتقطيع الدوائر الانتخابية، وتحديد نسبة العتبة الانتخابية.
وفي هذا الصدد، يجب الانكباب على تدقيق وتتميم أو تعديل بعض الجوانب القانونية الإدارية، القضائية، السياسية والتقنية المؤطرة والمواكبة للعملية الانتخابية، وتنزيل التعديلات التي ستهم بالأساس بعض مواد القانون التنظيمي لمجلس النواب والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية وقوانين المنظومة الانتخابية.
وعلى كل حال، فإن إنجاح المحطات الانتخابية المقبلة مجتمعة يشكل تحديا للوزارة وللفاعلين السياسيين وجميع المعنيين بهذه العملية، باعتبارها المنفذ الأساسي لإفراز المؤسسات القادرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية المُسطرة، كما شدد على ذلك وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، سابقا في معرض تقديمه لمشروع الميزانية الفرعية لوزارة الداخلية لسنة 2021 أمام لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب.
وأكد السيد لفتيت، في ذات الإطار، على أن الوزارة، وسعيا منها إلى توفير الشروط الملائمة والإعداد الجيد لإجراء مختلف الاستحقاقات الانتخابية المقبلة سواء منها الوطنية أو الجهوية أو المحلية أو المهنية في أحسن الظروف، بادرت إلى عقد لقاءات لتيسير عملية التشاور وتقريب وجهات نظر الفاعلين السياسيين بشأن المنظومة الانتخابية، وفق مقاربة تشاركية، ستساهم لا محالة في إفراز مجالس منتخبة مؤهلة قادرة على الوفاء بالمهام الموكولة لها دستوريا.
الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021.. رهانات وتحديات
و يرى مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات محمد مصباح، أن “الانتخابات المقبلة انتخابات من دون رهانات سياسية كبرى، لا تأتي في سياق إصلاحات، أو تحول ديمقراطي، بقدر ما هي انتخابات تقنية لتدبير الأزمة”.
وفي حديثه مع الجزيرة.نت، يعتبر مصباح أن الدولة المغربية تريد ربح رهان الاستقرار المؤسساتي، وتعول على الانتخابات كأداة لامتصاص تداعيات الأزمة، وتجاوز الاحتقان الاجتماعي وتنفيسه.
من جانب آخر، عَلَّق أستاذ القانون الدستوري رشيد لزرق بالقول إن « المشهد السياسي الحزبي تسوده الضبابية، وأن الأحزاب لم تستطع مسايرة الإصلاح الدستوري، وأضاف لرزق في حديثه للجزيرة.نت، أن الأحزاب ونُخَبُها ليست في مستوى الدستور، مشيرًا إلى أن الأحزاب -خلال مواجهة جائحة كورونا- كانت تنتظر الإشارات، ولم تقدم مبادرات.
وفي كل استحقاق انتخابي، تتجدد التحديات نفسها: تعزيز الثقة في الأحزاب والعمل السياسي ورفع نسب المشاركة، وأيضا السير الجيد للانتخابات، كما تطفو على السطح النقاط الخلافية ونقاط الاتفاق بين الأحزاب السياسية في مقترحاتها للإصلاح.
إلى ذلك، تبقى الأحزاب السياسية المغربية، أولا كمؤسسات للوساطة المجتمعية وثانيا كمكونات ذات أبعاد وصفة دستورية، ملزَمة بإعادة إنتاج تصور جديد على مستوى علاقتها بالمواطن، تحقيقًا لمبتغى تحريك الدماء الجامدة في عروق « علاقة اللاثقة » بينها وبين أغلب الشرائح المجتمعية، وكذا الإيمان أن دور هذه الأحزاب لا يجب، وبحال من الأحوال، أن يبقى حبيس أو رهين حرارة اللحظة الانتخابية برؤية انتهازية، من منطلق كون المواطن هو مجرد صوت انتخابي وليس اعتباره، وهو واقع الحال والمفترض دستوريا وأخلاقيا، جوهر العملية الانتخابية مرجعيةً و منهجا وأهدافًا.