الحلقة 8
أبِي أعَدّ لي مَفاجأة!
وهي انْ نُسافِرَ معًا إلى ذلك العالَم..
سنَركبُ الحافلةَ إلى “مَكناس”..
فرحتُ كثيرًا للخَبَر، حتى وأنا لا أعرفُ معنَى المدينة..
قال لي والدي: ” المدينةُ مَنازلُ كثيرة، وطُرُقٌ كثيرة، وسُكّانٌ كثيرُون”…
وأنا لم أفهَم.. لم يَسبِق لي أن رأيتُ المدينة..
أنا لا أعرفُ إلا قريَتَنا..
مُقتَنِعٌ بأنّ كلّ العالَم يُختَزَلُ في قريَتِنا..
جلستُ على رُكبةِ والدِي، وانطلقَت الحافلةُ باتّجاه مدينة “مَكناس”..
لأوّلِ مرّةٍ أرى المُنعرَجاتِ المُمتَدّة وراءَ أُفُقِ “رأس جِيرّي”..
لأوّلِ مرّةٍ أكتَشفُ عَوالمَ تُوجدُ خارجَ قريتِي، وفيها النّاس.. أنواعٌ من الناس.. كبارًا وصِغارًا..
وعلى العُموم، هُم بَشَرٌ مِثلَنا، نحنُ القادِمُون من قريتِنا..
اندهَشتُ لمَرأَى الشّوارعِ في “مَكناس”..
نزَلنا من حافلة..
وسِرتُ مع أبي، في زِحامٍ بَشَرِيّ شديد..
شوارعُ مُعبّدة.. أعمدة كهربائية.. باعةٌ على الرّصيف.. سيارات.. الناسُ تتكلّم.. وأبي يُسلّمُ على بعضِهم، أو يرُدُّ السّلام..
هذا عالَمٌ عجيب..
أبِي مَعرُوفٌ في مدينةِ “مَكناس”..
والناسُ في المدينةِ لا تتَصافَح.. كُلُّ واحدِ يَمضِي، في تجاهُلٍ لمَن حولَه..
وهذا التّجاهُلُ يَصدِمُني أنا ابنُ الباديّة.. يَصدِمُني أنا مَن ألِفْتُ آدابَ الباديّة..
ولم أَسأل.. صِرتُ أُتابِعُ خُطواتِ أبي دونَ أيّ تعليق..
وقَفتُ معهُ ببَابِ مَتجَر.. ثم مَتجَرٍ آخَر، فثالِث ورابِع… وكِدتُ أَضِيعُ في الزّحام..
فقَدتُ خُطَى أبِي.. أين أبِي؟
وبَدأت المَخاوِفُ تَدُبّ في قلبي..
ولكِنّ أبِي سُرعانَ ما وضَعَ يدَه على كتِفي..
والتَقَينا من جديد..
أخذَني أبي من يَدِي، وسِرتُ معه إلى مَتجَر..
– صباحُ الخيرِ يا سيّدي!
قُلتُها كما هي العادةُ في قريَتِنا..
ولم يَرُدَّ الرّجُلُ السّلام.. رُبّما لم يَسمَع.. ورُبّما تَجاهَلَ التّحيّة..
أبي ضحِكَ منّي، عندما غادَرْنا المَكان..
التَفَتَ إليّ والدِي: أنتَ قُلتَ “سيّدِي” لِيَهُودِي؟!
وشاركتُ أبي في الضّحك: “هل هو يَهُودِي؟”
إنه يَتكلّمُ العَربيّة!
فما هو اليهُودي؟
هُنا بدأتُ أتساءلُ بصَمت.. أطرحُ لنفسِي أسئلةّ كُبرى.. أسئلة مُحرٍجة.. وأبحثُ لكلّ منها عن جواب..
وأدركتُ فيما بعد أن الإشكاليةَ لا تحتاجُ إلاّ جوابًا.. واحدًا لا أكثَر: هو أن الناسَ كلُّهُم سَواسيّة..
– وانتَهت زيارةُ “مَكناس”..
امتَطَينا الحافلة.. وقبل أن تنطلق، صَعِدَ بائعُ الحلوَى وهو يُردّد: “هذه حُلوَة وطَريّة”..
عجِبتُ للمَدينة..
لم يسبِق أن رأيتُ مَدينةً قبلَ مكناس..
ثمّ صَعِدَ شيخٌ يَقُودُهُ طِفل: “احِنُّوا عليّ، اللهُ يَحِنُّ عليكُم”!
البُؤسُ مَوجُودٌ في مَكناس…
واحتَفَظتُ لنفسِي بتساؤلاتٍ أخرى..
وصَلنا إلى “رأس جِيرِّي”..
هذه القريةُ أجملُ منَ المدينة.. فيها مُتّسَعٌ من الحَركة.. الحياةُ فيها حَمِيميّة.. والناسُ تتَعارَف..
وتُسلّمُ على بعضِها.. وتتَكلّم..
أمّا في المدينة، فكُلٌّ مع نفسِه، ولِنَفسِه..
وأبي غيرُ مُتّفق.. يرى إيجابياتٍ لا أراها..
وأنا بطبعِي مُنعزِل.. قلّما أخالطُ الناس.. أنا كثيرُ الكلامِ مع نفسي، لا مع الغير..
– مَيّالٌ إلى العُزلة..
وأُدَوّنُ ما يخطُر بِبالِي..
– يُتبَع…