في مدينة الدار البيضاء، أسدل الستار على حياة أحمد البخاري، الرجل الذي حمل أسرار الدولة لعقود، قبل أن يقرر البوح بها.
عن عمر ناهز 87 عامًا، غادر هذا الضابط السابق في المخابرات المغربية (الكاب 1) إلى مثواه الأخير، بعد أن ترك خلفه إرثًا مثيرًا للجدل، بين شهادات صادمة وكتب وثقت مرحلة حافلة بالتعقيدات الأمنية والسياسية.
ولد البخاري في مدينة آسفي عام 1938، في زمن كان المغرب فيه على مشارف استقلاله. لم يكن من أصحاب الأضواء، بل ظل يعمل في صمت داخل أجهزة الدولة،
متتبعًا تفاصيل الحقبة التي قاد فيها الجنرالان محمد أوفقير وأحمد الدليمي جهاز الأمن المغربي بيد من حديد.
كان جزءًا من منظومة أمنية صاغت المشهد السياسي في البلاد، لكن ما ميّزه عن غيره، أنه قرر يومًا أن يروي ما رآه وعايشه.
لم يكن ظهور أحمد البخاري في تسعينيات القرن الماضي مجرد مرور عابر، بل كان بمثابة زلزال هزّ كثيرًا من المسلمات.
خرج بتصريحات نارية، روى فيها ما اعتبره حقائق حول عمليات المخابرات المغربية، خاصة ما تعلق منها بقضية اختفاء المعارض المهدي بن بركة في منتصف الستينات.
لم يكن الجميع مستعدًا لسماع ما قاله، فواجه موجة من التشكيك والرفض، لكنه ظل مصرًا على أنه لا يسرد سوى ما عرفه عن قرب.
لم يكتفِ أحمد البخاري برواية شهاداته في المقابلات الصحفية، بل سعى إلى توثيقها في كتابين شكّلا حجر زاوية في قراءته لتاريخ المخابرات المغربية.
في كتابه الأول “السر” (Le Secret)، تناول قضية المهدي بن بركة، تلك الحادثة التي ظلت غامضة لعقود، محاولًا فك شفراتها من موقع العارف بخبايا الأجهزة الأمنية.
أما كتابه الثاني، “أسباب الدولة” (Raisons D’État)، فقد كان بمثابة كشف للعمليات الاستخباراتية التي جرت بين عامي 1960 و1980، وهو ما جعله مرجعًا مثيرًا للجدل حول تلك الفترة الحساسة.
كان الرجل يدرك أن كلماته لن تمرّ دون تبعات.
فالكشف عن أسرار أجهزة تعمل في العتمة لم يكن بالأمر الهيّن. ومع ذلك، لم يتراجع عن مواقفه، رغم العزلة التي فُرضت عليه، ورغم محاولات التشكيك في صدقيته.
ظل ثابتًا، يتحدث بصوت الواثق، حتى وهو يعلم أن ما يقوله لن يُكتب له القبول لدى الجميع.
برحيله، يطوي أحمد البخاري صفحة ظلّت مفتوحة على التساؤلات أكثر من الأجوبة.
فقد كان شاهدًا من داخل المنظومة الأمنية، لكنه اختار أن يكون راوياً لها من الخارج، محاولًا تفكيك ألغاز مرحلة لم تفصح عن كل أسرارها بعد.
واليوم، وهو يوارى الثرى، تبقى كلماته، سواء صدقها البعض أو رفضها، جزءًا من السردية التي ستظل تُقرأ بعيون متعددة وزوايا متباينة.