يشهد مشروع القانون المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة جدلاً واسعاً داخل البرلمان وخارجه، حيث حظي بموافقة 87 نائبا بينما عارضه 25 نائبا، دون تسجيل أي امتناع عن التصويت.
هذا التصويت، رغم حسمه المسطرة التشريعية في مرحلة أولى، إلا أنه فتح الباب أمام نقاش حاد حول جوهر المشروع وتوازناته الداخلية وانعكاساته على المشهد الإعلامي المغربي.
المجلس الوطني للصحافة تأسس ليكون الهيئة المكلفة بضبط وتنظيم القطاع الصحافي، بما يضمن التوازن بين حرية الصحافة واستقلالية الإعلام وحماية الحقوق المهنية للصحافيين، مع تعزيز التعددية والتنوع الإعلامي.
منذ إنشائه، اعتمد المجلس على فلسفة التنظيم الذاتي للمهنة بحيث يُمثّل الصحافيون بكثافة إلى جانب الناشرين مع الحرص على مبدأ التشاركية واتخاذ القرارات في إطار ديمقراطي، مستنداً إلى مبادئ دستورية واضحة، أبرزها الفصل 28 الذي يحث السلطات على تشجيع الصحافيين على تنظيم أنفسهم بشكل ديمقراطي ومستقل وضمان حرية التعبير والصحافة.
طرحت الحكومة مشروع القانون بهدف إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، مع إدخال تعديلات على تشكيلته وطبيعة العضوية وآليات انتخاب أعضائه، إضافة إلى التنظيم المالي والإداري، حيث شملت التعديلات 249 مادة تغطي الأحكام العامة واختصاصات المجلس وتشكيلته وكيفية انتخاب وانتداب أعضائه من ممثلي الصحافيين والناشرين. ورغم موافقة اللجنة على المشروع، أثار جدلاً واسعاً حول تمثيلية الصحافيين مقابل الناشرين ومدى انسجام بنوده مع روح الدستور ومعايير التمثيلية الديمقراطية.
من زاوية قانونية، يرى بعض الخبراء أن المشروع يضع التمثيلية على أساس رقم المعاملات ورأس المال، وهو ما يتعارض مع الدستور، فقد صرّح أحد رجال القانون، هو الاستاذ الدكتور عبد العالي الطاهري قائلاً: “..الملحوظ أن المقترح يدعو إلى أن تكون التمثيلية على أساس رقم المعاملات، وكأننا أمام مشروع تعديل يربط قوة التمثيلية داخل المجلس الوطني للصحافة برأس المال..
هذا التعديل مفصّل على مقاس مؤسسة إعلامية بعينها…”
وقد أضاف أيضا: “..هذا امر فيه ضرب للدستور وضرب للديمقراطية وضرب للقطاع والتمثيلية واقصاء ممنهج ومخطط له لاغلبية المقاولات..”
مؤكدا على أن: “المعيارين اللذين يجب اعتمادهما هما المقروئية والتعددية، ووجب الإشارة إلى أن النقاش المرتبط بنقاط تعديل المجلس يبقى مؤطراً بالدستور وخاصة بالفصل 28 الذي يدعو السلطات بجميع مكوناتها الى تشجيع الصحفيين على تنظيم أنفسهم بشكل ديمقراطي ومستقل، والديمقراطية والاستقلالية هنا لا يمكن تحقيقها إلا بتوفير مناخ يضمن تمثيلية لاغلبية هذه المؤسسة الاعلامية.
ويطرح هذا العنصر القانوني سؤالاً جوهرياً حول مدى إمكانية ربط التمثيلية المهنية باعتبارات مالية محضة أم أن روح الدستور تُلزم بتوسيع المشاركة الديمقراطية للصحافيين.
على المستوى التشريعي، لم يخلُ المشروع من اعتراضات، فقد أوضح رئيس لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب عدي شجري قائلاً: “..المشروع لم يأخذ بعين الاعتبار آراء جميع الفاعلين، ولم تكن هناك مقاربة تشاركية حقيقية” مضيفا: “.. أنا كبرلماني، أصوت مع الفريق الذي أنتمي إليه وهو التقدم والاشتراكية، وبالتالي فقد صوتت ضد مشروع القانون”.
وبالتالي يعكس هذا التصريح الانقسام الجلي داخل البرلمان بين أغلبية دفعت بالمشروع إلى المصادقة وأقلية ترى فيه إقصاءً لمواقف أساسية في الحقل الإعلامي.
من جانب المهنيين، عبّر فاعل نقابي وصحافي مهني عزيز اجهبلي عن خيبة أمله من مسار المصادقة، قائلاً: “لقد تابعت وما زلت أتابع تفاصيل أغلب اللقاءات والندوات التي نظمتها مختلف الهيئات حول مشروع القانون.
غير أن الخلاصة التي خرجت بها هي أن المشروع لم يوضع في سياقه العام قبل عرضه على البرلمان.
حصة الأسد من النقاشات تنصب على قضية التمثيلية، حيث منح المشروع 7 مقاعد للصحافيين مقابل 9 للناشرين، وهو ما يمثل اختلالاً واضحاً في ميزان القوى داخل المجلس.
الوضع المادي الهش للصحافيين، وتملص بعض المؤسسات الإعلامية من صرف ما تبقى من الاتفاق الاجتماعي المحدد في 2000 درهم للصحافيين و1000 درهم للتقنيين، يعكس أن المشروع لا يعالج فعلياً التحديات الاجتماعية والمهنية التي يواجهها الجسم الصحفي”.
النقابة الوطنية للصحافة المغربية عبّرت بدورها عن رفضها للصيغة الحالية للمشروع، فقد صرّح عضو المجلس الوطني للنقابة جلال كندالي قائلاً: “التغييرات التي طرأت على المشروع لم تستحضر جوهر المقترحات التي قدمناها، بل اختارت منحى مخالفاً تماماً” مشيراً إلى أن: “..أخطر ما يمكن تسجيله هو التراجع عن فلسفة التنظيم الذاتي والديمقراطية المهنية التي قام عليها المجلس منذ تأسيسه،اذ أن تبني نظام الاقتراع الفردي بدل اللوائح المهنية يقوض التمثيلية الحقيقية ويدفع نحو منطق فردي يضعف قوة الجسم الصحفي.
مشيرا إلى أن: “..الإبقاء على نفس حصة الصحافيين مقابل توسيع تمثيلية الناشرين يناقض مبدأ التوازن، ويحوّل المجلس من فضاء للتنظيم الذاتي المستقل إلى أداة ذات طابع إداري، وهو ما سيؤثر سلباً على حرية الصحافة وصورة المغرب دولياً”.
وبالتالي يؤكد هذا الموقف أن المخاوف تتعلق أساساً بخطر تحويل المجلس إلى أداة إدارية أكثر من كونه هيئة مستقلة تمثل المهنة.
من جهة أخرى صرّح الصحفي المهني عادل الزبيري قائلاً: “التعديلات الأخيرة في مشروع المجلس الوطني للصحافة تميل نحو جهة واحدة تمثل الناشرين، بينما أبدت باقي الأجسام النقابية والمهنية رفضها.” مضيفا: “الصحافة المغربية تواجه أزمة وجودية ومهنية، وتراجع هوامش حرية الإعلام يفرض التفكير في إصلاحات حقيقية لضمان استمرار الممارسة الصحفية.
مؤكدا في النهاية أن: “لتعزيز دور المجلس، يحتاج المغرب إلى قانون يحصّن المهنة ويمنحها دعماً عاماً وفق معايير واضحة، مع إعادة تنظيم سوق الإشهار، خصوصاً مع الاستحقاقات الإعلامية المقبلة.”
يتفق المتتبعون على أن المشروع، في صيغته الحالية، يواجه عدة تحديات أبرزها غياب التوازن في التمثيلية بين الصحافيين والناشرين، واعتماد منطق المقاولة على حساب منطق المهنة، وهشاشة الوضع المادي للصحافيين والتقنيين، وإقصاء النقابات من صناعة القرار داخل المجلس.
وفي المقابل، يمكن استغلال بعض الفرص لإعادة التوازن، من خلال العودة إلى نظام اللوائح لضمان تمثيلية عادلة، وتعزيز حضور الصحافيين داخل المجلس لضمان استقلاليته، و إشراك النقابات في صياغة النصوص المؤطرة، وربط المجلس بورش أشمل تشمل قانون الصحافة والنظام الأساسي للصحافي المهني.
تكشف المواقف المعلنة أن مشروع القانون لا يزال في قلب جدل مفتوح، حيث يراه البعض أداة لإعادة تنظيم القطاع، فيما يعتبره آخرون تقويضاً للتنظيم الذاتي وإقصاءً للمكونات المهنية الأساسية.
وبالتالي يظل مستقبل المجلس مرهوناً بقدرة المشرّع على إدخال تعديلات جوهرية تُعيد التوازن وتكرّس التمثيلية الديمقراطية، بما ينسجم مع روح الفصل 28 من الدستور ويضمن استقلالية الإعلام وصون حرية الصحافة في المغرب، وهو ما سيكون له انعكاس مباشر على مصداقية القطاع ومستوى الثقة بين الصحفيين والمجلس.















