بعد بدء عملية “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر الماضي، وما تبعها من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على فلسطين، نظمت مجموعة من الجماعات العربية والفلسطينية واليهودية العديد من المسيرات والتظاهرات، للتنديد بالعدوان الإسرائيلي، وشملت الاحتجاجات حملات للمقاطعة، ودعوات لسحب الاستثمارات من الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، كما رفعوا شعارات تندد بجرائم الحرب المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني، كما اتهموا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وتطهير عرقي.
في الآونة الأخيرة، تشهد الجامعات الأمريكية هي الأخرى حراكا طلابيا مناهضا للاحتلال الإسرائيلي، والذي ينادي بالعدالة وإنهاء فوري لإطلاق النار على قطاع غزة، يتعرض الطلاب الذين يجسدون روح النقد البناء والنضال السلمي للعقاب والاضطهاد، ما يثير تساؤلات كبيرة حول مدى صدق السياسة الأمريكية في دعم الحرية، والحفاظ على حقوق الإنسان.
يعتبر هذا الاحتجاج الطلابي نوعيا، حيث لا يتعلق بقضية أمريكية فقط. ربما للأمر ارتباط بالإنفاق السخي من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على الإجرام الإسرائيلي وتزويده بالعتاد والذخيرة، لكن خلافا لما تحاول الدعاية أن تقنعنا به، ليس هناك ارتباط لهذا الحراك بالمساس المباشر بمصالح المواطن الأمريكي. حيث لا يوجد جنود أمريكيون يعودون في الثوابت ولا أمهات تبكين أبناءهن الذين يقتلون في حرب غير مرغوب فيها أو غير مبررة كما كان الحال مع الحرب الفيتنامية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أو في حرب العراق وأفغانستان.
قام الطلبة الأمريكيون بنصب الخيام قبل أسبوعيين في حديقة جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، للتعبير عن تضامنهم مع فلسطين ودعمهم لقضيتها، كما فعلوا ذلك غضبا لحال المواطن الفلسطيني الذي يبيت في العراء داخل قطاع غزة، بعدما فتك، وهدم السلاح الأمريكي بيته فوق رؤوس جزء من أقاربه. يعتبر هذا السلوك نوعي وفريد ومختلف، لأنه يلامس رابط الإنسانية الذي كنا نظن في وقت مضى أنه انقطع ولم يعد موجود.
تواصلت حركة الاحتجاجات الطلابية والاعتصامات في جامعات مرموقة للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ أكثر من 200 يوم، ووقف تسليح الولايات المتحدة لإسرائيل، حيث انطلقت الاحتجاجات من جامعة كولومبيا لكنها سرعان ما عمت “الحرم الجامعي” من أقصى شرق الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية ماساتشوستس إلى أقصى غربها حيث كاليفورنيا، وسرعان ما توسع حراك الطلبة المساندين للفلسطينيين ليشمل مدنا مثل لوس أنجلوس ونيويورك وشيكاغو وأتلانتا.. متجاوزا أسوار جامعات أمريكية عريقة كهارفرد وكولومبيا وبرينستن. ما جعل السلطات تشن حملة اعتقالات جماعية في عدد من جامعات الساحل الشرقي، في حين أقدمت شرطة لوس أنجلوس على اعتقال عدد من طلاب جامعة جنوب كاليفورنيا، وسط دعوات من شخصيات سياسية لاستخدام وحدات “الحرس الوطني” للتصدي للطلاب المناهضين لإسرائيل في جامعة كولومبيا بنيويورك.
من هنا يطفو النفاق الأمريكي على السطح، على الرغم من أن أمريكا تصف نفسها بأنها “وسيط نزيه” في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن تصرفاتها تكشف عن واقع مغاير تماما، فهي تساند إسرائيل بلا شروط، حتى لوكان ذلك يعني تجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والقانون الدولي. بالتالي يظهر النفاق الأمريكي واضحا في موقفها المزدوج حيال القضية الفلسطينية، حيث تتغنى بالحرية والديمقراطية في الأقوال، ولكنها تفتقر إلى تطبيقها في الأفعال، مما يجعلها تحت المجهر العالمي للانتقاد والاستنكار.
في أمريكا تعتبر الحرية وحق التعبير قيما عظيمة، ولكن هذا ينطبق فقط إذا كان الحديث عن الأمور التي يريدها الساسة الأمريكيون أن تناقش. ومن السخرية الكبيرة أنه في بلد يعتبر نفسه “حامي الديموقراطية”، يتم قمع الرأي الذي ينتقده الحلفاء الإسرائيليون، فهم يتحدثون عن قيم الحرية وحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه يحترمون بلا حدود ” حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، حتى لو كان ذلك على حساب قتل المدنيين الفلسطينيين العزل.
في النهاية، يبدو أن الديمقراطية الأمريكية تكتسب طعم الانتقائية والنفاق عندما يتعلق الأمر بالقضايا الدولية، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل هذا الواقع المرير. لكن هل سيتغير هذا الوضع في المستقبل؟ الأمل قائم، لكن من الواضح أنه يتطلب مزيدا من الوعي والنضال من أجل العدالة والمساواة لجميع الشعوب والأمم.