طوال ربع قرن تقريبا، وكلما زرت جهة الداخلة إلا وأحرص على التقيد بطقس زيارة معبر الكركرات الحدودي، ولو لسويعات معدودة، ليس للاستمتاع بجمال السبخات والشواطئ الجميلة والمحميات الطبيعية الخلابة الموجودة على طول 380 كلم تقريبا الفاصلة بين مدينة الداخلة و الكركرات فحسب، بل والترحم على كل جندي مغربي سقط شهيدا في حربنا المقدسة ضد العدو الجزائري.
فأنا كنت وما زلت وسأبقى، من الذين يعتزون بفرق الهندسة العسكرية المغربية. هذه الفرقة التي أدخلت المغرب للتاريخ من بابه الواسع، بفضل نجاح جنود الهندسة العسكرية في بناء أضخم وأطول وأعقد الجدران الأمنية في العالم، بشكل جعل أفراد عصابة الجزائر وعصابة البوليساريو يخرون صاغرين في الأمم المتحدة لقبول وقف إطلاق النار عام 1991. إذ أن إنجاز الجدار الأمني بكامل تراب الأقاليم الجنوبية “جاب ليهم ثلاثة وضامة”، على اعتبار أن الجدار منع تسلل عصابة البوليساريو وأوقف تحرشات العدو الجزائري ضد المغرب.
قيمة الجدار الأمني تظهر من خلال توفير المناخ الملائم لتعمير وتنمية مدن الصحراء وإغراء كل مستثمر( مغربي أو أجنبي)، بالقدوم للصحراء للاستثمار. وهذا ما أظهرته العملية الأمنية التي قامت بها القوات المسلحة الملكية يوم 13 نونبر2020 بعد تطهير معبر الكركارات من إرهابيي البوليساريو ومن يمولهم في قصر المرادية.فهذه العملية كانت فأل خير على المغاربة ككل، لأنها سمحت بإحكام الطوق نهائيا على كامل صحراء المغرب لمنع تسلل أي عميل جزائري أو عصابة البوليساريو. بحيث أمر الملك محمد السادس، في نونبر 2020، بوصفه القائد الأعلى للجيش، بأن يتم “سد الباب” على العدو بإتمام الجدار الأمني السابع،الذي أمن نهائيا معبر الكركارات، وبالتالي أمن تنقل السلع والبضائع بين المغرب ودول إفريقيا.
ففي بداية استرجاع الصحراء من طرف المغرب عام 1975، كان صعبا على أي مستثمر أن يغامر بالذهاب للصحراء، وكان مستحيلا على أي مدني أن ينتقل من الشمال ليستقر بالصحراء، بسبب كثرة الهجومات التي كانت تقودها الجزائر والبوليساريو طوال أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهو ما قاد (أي تناسل الاعتداءات والهجوم على المراكز الحضرية والتجمعات البشرية بالمغرب)، السلطات المركزية إلى التفكير في إيجاد حل عسكري أبدي يحمي العباد والبلاد، فتم الاهتداء إلى بناء الجدار الأمني الذي يحق فعلا للجندي المغربي أن يتباهى به ويفتخر به كأحد أهم المنجزات التي نفذها حوالي 140 ألف جندي المرابطين بالصحراء، معززين بالطيران الحربي الذي كان يؤمن لهم الممرات أو يطارد البوليساريو والجيوش الجزائرية في هذا المخبأ أو ذاك.
وفضلا عن الجدار السابع الصغير الذي أنجزته فرق الهندسة العسكرية المغربية في رمشة عين بعد طرد عصابة البوليساريو من معبر الكركرات في نونبر 2020، هناك قصة يتعين أن تحكى عن تاريخ المقاطع الستة للجدار الأمني، والتي سبق لي أن نشرتها في موقع “أنفاس بريس”،وهي كالتالي:
الجدار الأمني 1
بدأ تنفيذ إنشاء الجدار الأمني الأول فعليا في شهر غشت 1980، وقد استهدف التخطيط لهذا الجدار البالغ طوله الإجمالي 600 كلم استغلال التموجات الأرضية إلى أقصى حد ممكن. حيث استند على حواجز طبيعية فكان الإنشاء والبناء انطلاقا من منطقة الزاك ليسير باتجاه الغرب.واستأنفت الأعمال على جبال «الوركزيز» ليكمل ذلك الحاجز الطبيعي حاجز اصطناعي يتكون من ساتر ترابي ابتداء من «المسيد» إلى «رأس الخنفرة» في اتجاه الجنوب حتى يلتقى الساتر بالحزام الأمني للسمارة، ثم يلتف حول المدينة من جنوبها ليتقدم باتجاه «بوكراع» حيث كانت الأعمال جادة لبناء جدار آخر.
الجدار الأمني 2
بلغ طول الجدار الأمني الثاني 225 كلم، وقد كان الهدف الأساسي من إقامته فك حصار مدينة بوجدور، التي عمدت البوليساريو إلى عزلها عن مدينة العيون العاصمة، باستغلال بعد المسافة الفاصلة بينهما لزرع الألغام على الطريق المؤدي إليها لمنع الحركة العادية، ثم الاستفادة من الظروف والأحوال لنصب الكمائن أو القيام بالغارات كلما سنحت الفرصة أثناء تنقل القوافل بين المدينتين أو ضد القوات التي تعمل على تطهير الطريق لحماية القوافل أو القيام بالدوريات.
وقد ابتدأ العمل في هذا الجزء من الجدار بعدما تجلت واضحة الفوائد التعبوية للجدران أو الأحزمة السابقة، بالخصوص الجدار الأول الذي فتح طرق المواصلات ومحاور التموين بين طانطان والعيون والسمارة.
وقد استغرقت عملية البناء 42 يوما من 4 ماي إلى يوم 16 يونيو 1982.
الجدار الأمني 3
شرع في إقامة هذا القسم من الجدار الكلي يوم 19 دجنبر 1983، وتم الانتهاء من أشغاله يوم فاتح مارس 1984، أي أنه بدأ العمل فيه بعد سنة ونصف من إقامة سابقه، حيث كانت هذه المدة كافية لزيادة التأكد من فعالية خطط قيادة القوات المسلحة الملكية، وأن هذه الخطط تحقق ما تهدف إليه القيادة الوطنية العليا من جدوى عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
ففي ظرف ثلاثة أشهر تم إنشاء وبناء جدار طوله 300 كلم بمعدل 100 كلم في الشهر. وقد امتد الساتر الترابي لجميع تجهيزاته من منطقة «أمكالة» ومرتفعاتها التي اشتهرت بالموقعة التي أدت إلى أسر حوالي 100 جندي جزائري كانوا قد تسللوا إلى الأراضي المسترجعة غداة انسحاب الجيش الإسباني بعد توقيع الاتفاقية الثلاثية بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا.
وقد اتجه الجدار بعد ذلك من «امكالة» غربا بموازاة الحدود الموريتانية شمال «بئر موكرين».
بإقامة هذا الجدار حرمت البوليساريو من الممرات التي كانت تستعملها لتتسرب إلى منطقة وادي الذهب عبر مرتفعات ووديان «امكالة»، فصار لزاما عليها العبور من الأراضي الموريتانية للقيام بأي عمليات تريد القيام بها في تلك المنطقة. وقد انتهت الأعمال في هذا الجدار يوم فاتح مارس 1984، فتم أيضا إبعاد أي خطر عن مدينة «السمارة» التي توسع نشاطها الاقتصادي والعمراني بعد فتح الطريق إلى «العيون».
الجدار الأمني 4
خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا تم بناء الجدار الرابع الممتد بين «الزاك» على مشارف «الحمادة» ومنطقة «لفريرينات» بالقرب من السمارة، وهكذا أدمج في المنطقة المؤمنة كل من مركز «الجديرية» ومركز «الحوزة» التي كان البوليساريو يدعي ويتبجح أنها عاصمة دولته الموهومة.
وهكذا أفرغت الساقية الحمراء من عناصر البوليساريو بعد اشتباكات انتحارية فاشلة، وانتهت أعمال البناء مساء يوم 10 ماي 1984.
الجدار الأمني 5
كان الحزام الأمني الخامس أكثر طولا من سابقيه، فقد امتد على مسافة قدرت بـ 400 كلم انطلق من نقطة «البعج» على «الوركزيز» شرق الزاك ليتقدم بمحاذاة الحدود الجزائرية الموريتانية، ثم ينحرف غربا في اتجاه «البريكة»، حيث التقى مع الجدار الأمني الثالث جاعلا من «الحمادة» والساقية الحمراء بمنابعها ومرتفعاتها منطقة آمنة مطمئنة. وبهذا امتنع على البوليساريو الوصول إلى مناطق معينة مثل «التكاة» على مجرى الساقية الحمراء التي طالما اعتبرتها البوليساريو ملاجئ حصينة تستطيع الاختباء بها في فترات الانسحاب والاختفاء.
وقد مكن هذا الجدار من حرمان عناصر البوليساريو من وصول الساقية الحمراء، بل حرمهم من إمكانية التسرب عبر الحدود الجزائرية في اتجاه الأراضي المسترجعة إلا إذا تم خرق حرمة الأراضي الموريتانية انطلاقا من الجزائر.
وتجدر الإشارة إلى أن بناء هذا الجزء من الحزام استغرق المدة الزمنية الفاصلة بين تاريخ 4 دجنبر 1984 و15 يناير 1985.
الجدار الأمني 6
لإعادة ربط الاتصال بين الداخلة والعيون، تم مباشرة بعد الانتهاء من بناء الجدار الأمني الخامس الاستعداد لاستغلال الخبرات المكتسبة خلال أعمال البناء السابقة لإقامة جدار يدخل منطقة وادي الذهب ضمن النطاق الأمني وفتحها على الأجزاء الشمالية المؤمنة. وهكذا انطلقت الأشغال بتاريخ 14 ماي 1985 من نقطة عند «أمكالة» ليسير بناء الجدار سريعا باتجاه المحيط الأطلسي عند «إمليلي» جنوب الداخلة ليؤمن كلا من «كلتة زمور» ومرتفعاتها التي عرفت صراعا مع «البوليساريو» عدة مرات، ثم منطقة «أم دريكة»، ومركز «بير أنزران» التي اشتهرت بمقاومتها لمحاولة «البوليساريو» اقتحام موقعها والسيطرة عليه. وهكذا تم تأمين كل ما يقع شمال هذه النقط على طول 650 كلم. وقد امتد قسم من الجدار بموازاة الحدود الموريتانية لمسافة تتجاوز 100 كلم قبل أن ينحرف في اتجاه الغرب ليصل إلى الشاطئ الأطلسي عند نقطة «إمللي» جنوب الداخلة، حيث أصبح خليج الداخلة محميا بواسطة الجدار حماية تامة من الجانب البري. أما الجانب البحري فتحرسه البحرية الملكية بمساعدة القوات الجوية.