في تغُّير جذري واستراتيجي، تشهد الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة، العديد من المستجدات اللافتة، خاصة على مستوى تعاطيها مع عدد من الملفات الخارجية ذات الراهنية والحساسية الكبرى، من قبيل ملف الصحراء المغربية والتعامل مع القوى الدولية العُظمى وكذا العودة القوية إلى الاتحاد الإفريقي، إذ قاطعت المملكة المغربية سياسة الكرسي الفارغ في عدد من الملفات، لا سيما تلك المتعلقة بنزاع الصحراء المغربية أو المكانة داخل القارة الإفريقية، وباتت الدبلوماسية المغربية هجومية « مخترقة » أكثر من كونها “دفاعية”.
وبرزت هذه التحولات المحورية، التي مسَّت السياسة الخارجية للمملكة، خصوصاً في مقاربة ومعالجة عدد من الملفات المفصلية الوازنة في القارة الإفريقية، وتجلت أكثر في عودة الرباط إلى منظمة الاتحاد الأفريقي بعد غياب دام زهاء 33 سنة، وأيضاً اقتحام الدبلوماسية المغربية معاقل جبهة “البوليساريو” التي تدَّعي زوراً وبهتاناً « منازعة » المملكة على سيادة الصحراء المغربية، سواء في إفريقيا أو أميركا اللاتينية. وكان من أهم هذه “الاقتحامات”، التي بصمت عليها السياسة الخارجية المغربية، التي تظَلُّ من الاختصاصات المحفوظة للمؤسسة الملكية، الحضور اللافت والنوعي للمغرب داخل القمة الإفريقية الأوروبية، التي عقدت في أبيدجان، والتقرب من بلدان معروفة بعدائها للوحدة الترابية للمغرب، خصوصاً جنوب إفريقيا وزيمبابوي، هذا دون التأكيد على على الضربة القاضية والنهائية التي وجَّهها المغرب لما يُسمى بجبهة « البولياساريو » ومن يرعاها ويدعم أوهامها، بعد التحرير التاريخي لمعبر الگرگرات القانوني والسلمي الحضاري من طرف القوات المسلحة الملكية، ومن ثَمَّة تأمين المعبر الوحيد الذي يربط القارة الأوروبية بالقارة الإفريقية عبر التراب الوطني المغربي، علاوةً على افتتاح أكثر من 19 بكل من مدينتي العيون والداخلة، من طرف دول عربية شقيقة و أخرى أجنبية صديقة، ليأتي القرار الرئاسي الأمريكي، بصيغة مرسوم رئاسي أمريكي، والقاضي بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه وأقاليمه الجنوبية، ليدقَّ آخر مسمار في نعش ملف عمَّرَ زُهاء ال 45 سنة.
هذه النتائج والمكاسب الوازنة للدبلوماسية المغربية المتلاحقة، جاءت بعد أن أدرك المغرب، بعد سنين طوال، التداعيات السلبية لسياسة الكرسي الفارغ التي كان ينهجها، خصوصاً في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، داخل القارة السمراء، والمكاسب السياسية التي كانت جبهة “البوليساريو” تحققها، مستغلة غياب الرباط عن الفعاليات والقمم الإفريقية، ما أعطاها زخماً ومصداقية خلال سنوات مضت، قبل أن تشمّر الرباط عن ساعدها وتقطع مع الغياب داخل القارة. وفهم صناع القرار في المغرب أن فاتورة مقاطعة الأحداث والقمم والمؤتمرات الإفريقية بسبب مشاركة ما يسمى “الجمهورية الصحراوية » الوهمية، هي أغلى وأقسى من فاتورة حضور المملكة في قلب القارة، فمَهَّد لعودتها إلى حضن المنظمة الإفريقية بزيارات مكوكية قام بها الملك محمد السادس، لعدد من بلدن غرب وشرق إفريقيا خصوصاً، أسفرت عن اتفاقيات واستثمارات اقتصادية كبرى في هذه البلدان. وتحوّل المغرب من لاعب “احتياطي” في الميدان الإفريقي، يكتفي بردود الفعل الدبلوماسية حيال المبادرات والتحركات التي تقوم بها جبهة “البوليساريو”، ومن خلفها البلدان التي تساندها، خصوصاً الجزائر وجنوب إفريقيا وعدد من بلدان أمريكا اللاتينية، إلى لاعب فاعل وناجع وسط الرقعة الإفريقية، من خلال “حصان الاقتصاد” الذي يجر “عربة السياسة”. وساهمت الإستثمارات (الإغراءات) الاقتصادية المستندة على اتفاقيات ثنائية، في قطاعات الزراعة والطاقة والصيد والاتصالات والسكن والصناعة، بين المملكة المغربية وبلدان إفريقية كبرى، في أن تجِدَ المملكة موطئ قدم قوياً داخل القارة السمراء، قبل أن تقرر العودة بطريقة وُصفت بالذكية إلى كرسِيِّها في الاتحاد الإفريقي، ما مكَّنها من تضييق “مساحات المناورات” أمام « البوليساريو” وحاضنتها الرسمية.
القمة الإفريقية ـ الفرنسية.. تنافس مغربي ـ فرنسي على دول الساحل جنوب الصحراء
وفي مرحلة موالية لعودته لحضن البيت الإفريقي، أصبح المغرب رقماً اقتصادياً صعباً في القارة الإفريقية، إذ يُصنَّف في المرتبة الثانية بعد جنوب إفريقيا من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إفريقيا، كما يعتبر أول مستثمر رفريقي في القارة السمراء بقيمة 5 مليارات دولار، عبر 22 مشروعاً استراتيجياً ضخماً، وهي مكتسبات اقتصادية ساهمت بشكل كبير في الحضور السياسي والدبلوماسي للمملكة المغربية في القارة الإفريقية. ولم تكتف السياسة الخارجية للمغرب بطَرْقِ أبواب الاتحاد الإفريقي، والدخول في معارك دبلوماسية ساخنة مع “البوليساريو” وحلفائها على مستوى الأجهزة التقريرية الإفريقية التابعة للاتحاد، ومحاولة فرض وجود الرباط في عدد من الملتقيات، أهمها وأقواها دلالةً ورمزيةً كانت قمة أبيدجان، بل بادرت المملكة المغربية إلى طلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (سيدياو)، وهو ما تحقق بالفعل. ويراهن المغرب في علاقاته، سواء مع الاتحاد الإفريقي أو من خلال عضويته في مجموعة “سيدياو”، على مبدأ “رابح ـ رابح ».
وفي إطار التعاون « جنوب ـ جنوب »، فإن المملكة ستتمكن من ترجيح كفة هذه البلدان نحو مقترحها لحل نهائي وعادل لقضية الصحراء المغربية في إطار مقترح الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية. كما يستفيد المغرب من الموارد الطبيعية الوفيرة واليد العاملة القليلة التكلفة في دول “سيدياو”، فيما تربح هذه الأخيرة استثمارات المغرب في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا والإسكان والمصارف، كما تستفيد من الوضع المتقدم للمغرب مع الاتحاد الأوروبي.
وأما خارج القارة الإفريقية، فإن السياسة الخارجية المغربية غيرت من توجهاتها السابقة بوضع جميع البيض في سلة واحدة، هي سلة حلفائها وشركائها الأوروبيين التقليديين، من قبيل فرنسا وإسبانيا، والاعتماد فقط على الدور الأميركي في ملف الصحراء الذي أتى أكله وبشكل فوق الفعَّال، بعد الاعتراف التاريخي الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه بصيغة قانونية في بعدها الدولي (مرسوم رئاسي)، بل حاولت توزيع بيضها على قوى دولية أخرى، مثل روسيا والصين، في إطار رؤية استثمارية للنهج الدبلوماسي المغربي الجديد على مرجعية « تعدد الشركاء الدوليين خاصة القوى العظمى ».
واختار المغرب تنويع شركائه الدوليين، رغم أنه أبقى على فرنسا حليفاً استراتيجياً وتاريخياً، إذ توجهت دبلوماسية المملكة أكثر صوب روسيا والصين. كما أن الملك محمد السادس زار هذين البلدين، وذلك لمآرب اقتصادية وسياسية، منها الاستفادة من التنمية الاقتصادية والتكنولوجية للبلدين، وأيضاً ضمان على الأقل “حياد” بكين وموسكو في ملف الصحراء المغربية، بالنظر إلى الارتباطات التاريخية لهما مع الجزائر حليف « البوليساريو”.
لقد استطاعت السياسة المغربية، بفضل تغيير استراتيجيتها على مستويي الرؤية الدولية والتحالفات، أن تحقق العديد من المكاسب الكبرى في سياقيها السياسي والاقتصادي، ما مكَّنَ المملكة المغربية من أن تصبح شريكاً وفاعلاً استراتيجياً وازناً، ارتباطاً بالشأنين الإفريقي والدولي.
ماذا وراء الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين المغرب وألمانيا ؟
سبق لوكالة “سبوتنيك” نقلا عن مصادر حكومية مغربية، أن كشفت أنَّ ما دفع الرباط لتعليق كل علاقات الاتصال أو التعاون مع السفارة الألمانية لديها، عبارة عن تراكمات سلبية شملت أكثر من قضية.
وقال مسؤول مغربي للوكالة إنَّ إقصاء المغرب من اجتماع برلين الذي عُقد بشأن القضية الليبية في يناير عام 2020، كان ضمن التراكمات السلبية في العلاقات بين البلدين.
الموقف الآخر الذي أدى إلى تعليق العلاقات، تمثَّل في موقف ألمانيا من الصحراء المغربية، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، حيث دعت لاجتماع مجلس الأمن لمناقشة التطورات، التي تراها الرباط تمس سيادتها.
واتفق مع هذا التقييم البرلماني المغربي جمال بن شقرون، الذي أكد أن على رأس القضايا في هذا الإطار قضية الصحراء، وأن رد الفعل الصادر عن الخارجية المغربية “يعتبر قرارا سليمًا إلى أن يثبت الموقف الأساسي بشأن التعامل بين البلدين، والذي يجب أن يقوم على الاحترام والتقدير المتبادل بين البلدين”.
وأشار بن شقرون إلى أن ما حدث منذ إقصاء المغرب من اجتماع برلين، وما صدر عن ألمانيا بعد القرار الأمريكي المتعلق بسيادة المغرب على الصحراء والتي يعتبرها الجانب المغرب من الخطوط الحمراء، هو الذي دفع إلى رد الفعل الحالي.
من جهتها، لفتَت الأكاديمية المغربية رقية أشمال إلى أن الخطوة التي اتخذتها الرباط مع الجانب الألماني هي الأولى من نوعها بهذا المستوى، حيث أنه كان يمكن أن تخفض مستوى العلاقات أو تهمشها مع بعض الدول في السابق دون الإفصاح عن تجميد العلاقات.
وحسب الأكاديمية، فإن المغرب يسعى للحفاظ على توازن علاقاته، إلا أن ألمانيا « ترجح علاقات دون أخرى على مستوى علاقاتها الدولية ».
ليبقى الموقف الدبلوماسي الرسمي والشعبي المغربي من إسبانيا الأبرز والأقوى على مستوى التغير الجذري الذي عرفته بنية وتوجهات الدبلوماسية المغربية في سياق منظومة العلاقات الدولية، بعد استقبال زعيم انفصاليي ما يسمى بالبوليساريو المدعو إبراهيم غالي، علاوة على كون الجار الإيبيري يعتبر السبب الأول تاريخياً في نشأة هذا الكيان الشاذ جغرافياً، والذي تدعمه الجارة الجزائر ولو على حساب ثروات وتطلعات الشعب الجزائري الشقيق، هذا الأخير الذي يرفض سياسة مافيا جنرالات الجزائر التي استنزفت مُقَدَّراته وخيراته على مدار عقود من الزمن لدعم كيان وهمي، وفي ضرب لجميع الأعراف الدولية المتعلقة بمواثيق حسن الجوار واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية.