لا زلت أتذكر ذلك القط رغم مرور سنوات او اكثر على اليوم الذي التقيته فيه ، كان متسخا ، مليئا بالجروح، أعور، يحاول الجري بصعوبة بالغة ، مستعينا بثلاثة قوائم فحسب، يبدو ان الرابعة قد بثرت جراء حادث مريع ، آلمني المشهد ، كان يكفيني لأبلغ ذروة الألم أن ألتقط المشاهد القادمة، طفلين صغيرين مجهزان ‘بالحجارة و القصب الذي غرزت فيه المسامير المسننة !، يتنافسان حول من سيقضي على القط أولا، حاولت التدخل حماية لهذا الكائن البريء، كنت اركض طولا و عرضا و كلي أمل في الإمساك بأحدهما، كانا مشاكسين للغاية لا يأبهان بحياة فريستهما ، كأنهما جردا من الإنسانية و الواجب الأخلاقي أين هي التربية ؟!، و هل من أحد يقيم وزنا لحياة هذا القط المسكين ، لحسن حظه استطاع ان يتيه وسط الحشائش وهنا حصل ما هو متوقع انسحب الأطفال من اللعبة بهدوء.
لا شك ان قصة القط ، تتركب عنها آلاف القصص المأساوية الاخرى ، ابطالها كائنات تشاركنا بيئتنا المحلية، تقضي الليل و النهار في العراء، و تقتات على فضلات الطعام ، وفي بعض الأحيان نرى انه من الصعب معرفة مكان تواجدها وظهورها مالم تتبعها بحرص لبضعة أيام ، وبما ان الحياة رمادية ، الحيوانات هي الأخرى تعيش داخل وضع صعب و مؤسف للغاية، جعلها أكثر حيطة وحذر، خصوصا عندما نمر بها او نستعد للاقتراب منها، و بسبب سوء معاملتنا لها ، و تسميمها ،و رشق الكلاب بالحجارة او حتى ابادتها، و حشو افواه القطط بالطلاسم و دفنها حية وفقا لطقوس السحر و الشعوذة، ازدادت خوفا وحساسية ـ خصوصا ان اغلب الناس يجهلون مشاعر مخلوقات غير قادرة على الشكوى او التظلم لأحد، في ظل فراغ قانوني لا يضع مهمة حماية حقوق الحيوان ضمن اولوياته، ما يفرض ضرورة التفكير حول طبيعة العلاقة الرابطة بين الإنسان ككائن عاقل و الحيوان الذي كان نصيبه من الاضطهاد و التعنيف اكبر من نصيبه في العيش بسلام و امان.
بالرغم من ان الانسان كان أوفر حظا ليسيطر على هذه الارض باعتباره خليفة الله فيها الا ان هذا لم يمنعه من التعرض لذلك التسلط وهوس التحكم ـ فالمجتمع لا يترك شيئا في حالته الطبيعية دون ان يسوقه لمصلحته، ويغير فيه أكثر مما ينبغي، في ظل هذه الظروف التي نشأت منذ الارهاصات الأولى لظهور الانسان الطبيعي، الى حدود ولوج هذا الأخير عالم الثقافة والمعرفة حتى أمسى كائنا صانعا، homo feber يصنع ويبحث في العوامل من اجل إيجاد الحل، وتحسين علاقاته والكائنات جمعاء.
وفي هذا الصدد، فقد جاء في مفاد أفكار الأخلاقية الكانطية ان ما يضفي على الإرادة الخيرة صفة الخير ليس هو النتائج التي تترتب عليها بل هو الطابع الالزامي الذي يتسم به فعلها حين يجيئ مطابقا للقانون الأخلاقي ، بمعنى صار هناك ما يعرف ” باتباع المسار الأخلاقي القائم على الاحترام و حسن المعاملة الناشئة من العقل نفسه تلقائيا، يقول كانط: ان واجبي يقضي الا اسرق لذا فأنا لا اسرق احتراما للواجب و العقل ، و من هنا نستحضر واجبنا كبشر تجاه حيوانات ترى في الخير والرحمة الدولاب المحرك لعجلة الحياة، فتترجم طيب المعاملة على انها سبب وهدف في حد ذاته، تكتشف من خلاله بصيصا من الامل خصوصا بعد الرفق بها و جعل علاقتها بالإنسان دائمة الحضور و دائمة العطاء، الامر لم يعد يتعلق فقط بالحاجة الى الطعام، فهذا الحيوان صار يرغب في استكشاف الإنسان والتعرف عليه أكثر، ومع تحليلنا لشخصية هذا المخلوق نجد لديه هذه القدرة المميزة على فهم تعبيرات وجه الإنسان و اتباع تعليماته كنوع من أنواع التواصل، من خلال إصداره أصوات و ردود فعل كحركة الذيل مثلا
…
لا زلت أتذكر أثناء التحاقي بالمدرسة الثانوية، انني دائما ما كنت اصادف في طريقي سيدة عجوز، تتجمع حولها عشرات القطط الجائعة، لتنال حصتها من الوجبة المحضرة بعناية من طرف هذه الجدة المعطاء، فمرة لحم نيء، ومرة سمك ومرة حليب، ومرة جلسة معالجة وعناية للقطط المريضة، منذ ذلك الحين، ظل هذا المشهد الجميل مخيما على ذاكرتي وما ان استعيده حتى أجد الابتسامة تتسلل على محياي.
ضمن السياق ذاته، يهمنا النبش في تربية الانسان مذ كان طفلا، باعتبار ان اشكال التربية و الأنماط الاجتماعية التي يخضع لها الانسان في طفولته هي الأساس، ليس فقط لإنبناء و تشكل شخيصته بل لنوعية الإنتاج المادي و المعرفي الذي يصدر عنه في سن المراهقة و الرشد، فاذا شئنا ان نبحث عن علة السلبية في سلوكياته، فينبغي ان نتلمس أسبابها في بذورها الأولى مع التكون و نعمل على معالجتها بشكل أبكر، وهنا نجد مثلا مسألة التبني الذي يوحي دائما بالعمل النبيل، ويرسم معالم التربية الصحيحة خصوصا ان ارتبط الطفل بالحيوان الذي لا يجيد سوى لغة الحب والوفاء، فيصبح اكثر صلحا و انفتاحا على المجتمع.. وفي هذا الصدد نستحضر هذا الحديث النبوي الشريف، فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “عذبت امرأة في هرة، لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض” لنستخلص ان الدعوة الإسلامية التي درست تفاصيل الحياة الإنسانية بعناية بالغة لم تنسى حقوق الحيوانات هي الأخرى بل انها سبقت الداعين الى الرفق بالحيوان بمئات السنين.