بالنسبة للعديد من المختصين في مجال الإعلام فإن استعمال طرق تواصل سياسية مدروسة ومحكمة للتأثير على الرأي العام نشأت مع الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت ودردشاته الإذاعية. البعض الآخر يردها إلى المواجهة التلفزيونية بين نيكسون وكينيدي التي غيرت كل المفاهيم فيما يتعلق باستعمال كل الأدوات التواصلية الممكنة لجر الناخبين للتصويت في اتجاه معين.
أخيرا هناك من يعتبر أن نيكسون هو الأب الروحي الحقيقي لنهج يجعل من السياسة مسالة صورة معينة يقدمها الزعيم عن نفسه وليس في تصور عام يعطي الأولوية للمشاكل الحقيقية وأسلوب حلها. هذا النهج الذي لخصه الرئيس الأمريكي في جملة جامعة مانعة: “الصورة أهم من الامور الجوهرية”.
ما يقال عن الأشخاص يمكن قوله عن الشركات، المؤسسات أو الدول. بناء صورة لها مصداقية لبلد ما في مخيلة المتلقي أمر لا يقدر بثمن. فكل دولة تعمل جاهدة على التأسيس لوهج يكفل لها امكانية التأثير عالميا والاستفادة المادية من استثمار في حقل الصورة، الذي يتحرك عبر فضاءات متميزة ومركبة يصعب تفكيكها بدقة في مقالة ولكن يمكن إجمالها في دور الانطباع الذي تتركه هذه الصورة، والذي يعتبره كثير من المختصين في مجال الإعلام بأنه أكثر اهمية من الواقع نفسه.
فيما يتعلق بالمغرب فلا أحد يمكنه إنكار بأن صورته الدولية، ولحدود الشهور الاخيرة، كانت في تحسن مطرد. عملية التلقيح ونجاحها أعطت صورة عن المغرب تناقلتها جل الصحف الوازنة عالميا معتبرة إياه حالة خاصة بين بلدان العالم الثالث.
قبل ذلك هناك إنجازات كثيرة تحققت على مستوى البنيات التحتية خلال العشرين سنة الاخيرة لا يمكن سوى تثمينها والنظر إليها كحلقة اولى في بناء مستقبل يشرفنا جميعا. هناك أمور كثيرة تسير بشكل جيد والتي ساهمت في إعطاء صورة جميلة عن المغرب إقليميا ودوليا لذلك يصعب على متتبع لأوضاع بلدنا ولو “من بعيد لبعيد” ان يفهم بعض القرارات التي تسيء للوطن وبشكل مجاني. قرارات تبدو في بعض الأحيان عبثية ولا طائل منها.
الأمثلة كثيرة ولكن سأكتفي بثلاثة أحداث حصلت خلال الشهور الأخيرة والتي مرغت سمعة بلادنا في وحل يفيد فقط من يريدون شرا به.
– فتح الحدود مع سبتة المحتلة أمام هجرة غير قانونية وبث صور لمغاربة “يفرون” من بلادهم في مختلف القنوات العالمية كانت ضربة قاصمة لصورة بلد يريد تقديم نفسه كدولة سائرة في طريق النمو. اي قراءة محايدة بعيدة عن البروباغندا سترى ان ما حصل خلال الأسابيع الأخيرة من شهر ماي الماضي كان خطأ فادحا في قراءة مردودية خطوة كانت تتوخى الضغط على الجار الشمالي. لو كان فتح الحدود اقتصر على ترك الباب مشرعا في وجه الافارقة القابعين قرب المدينتين المحتلتين لكانت حركة ذكية جدا على رقعة الشطرنج التي عادة ما يتقن المغرب تقنياتها على المستوى الدولي.
هروب مواطنين مغاربة وبتلك الطريقة البشعة نحو فردوس موجود في مخيلتهم فقط اعطى الانطباع بان الوضع في البلاد متردي لدرجة كبيرة جدا. هذه الصورة تتناقض تماما مع تلك التي يتوخى المغرب الرسمي اضفاؤها على نفسه عبر آلته الإعلامية، التي مهما حاولت، لا يمكنها أن تقنع أحدا بجدوى تلك الخطوة.
– الحدث الثاني مقترن بحكم نطقت به محكمة مراكش في حق شابة عشرينية بسبب بوست على صفحتها في فايسبوك: ثلاث سنوات ونصف سجنا نافذا لكونها “استهزأت” بنص قرآني. وبدون أي تبرير لما قامت به الشابة المذكورة فإن قرار المحكمة يبدو قادما من دواليب قرون غابرة لا علاقة لها بزمننا الحاضر. مغرب الاعتدال يتم ضربه في مقتل من طرف جمعية من المتهورين، كي لا أستعمل كلمة أخرى أكثر حدة، التي قرر أعضاؤها ان يضعوا انفسهم وصاة على الدين وعلى رقاب العباد وقاضي تنقصه الحكمة الكافية لإيجاد مخرج ذكي يجنب البلد الصورة التي بدت بها مباشرة بعد النطق بالحكم.
الموضوع تابعته عن قرب لكون الشابة تحمل الجنسية الايطالية كذلك. أقول لمن يهمه الأمر ان صدمة الرأي العام في إيطاليا كانت قوية لأن الجميع هنا يتخيل المغرب واحة اعتدال في عالم إسلامي تنخره كل موبقات التشدد والانغلاق والتي نعرف نحن جيدا أنها تسربت ومنذ زمان للحياة السياسية والاجتماعية ببلدنا. يكفي ان يقرأ المرء تعليقات أغلب القراء لقرار محكمة مراكش، والتي تطالب بعقوبة أكثر قسوة، ليستشف درجة التطرف التي على صاحب القرار ان يفهم أسبابها وأن يسرع في إيجاد حلول لها “قبل ما يفوت الفوت”.
– الحدث الثالث مرتبط بحكم قضائي آخر: خمس سنوات في حق سليمان الريسوني. الخبر قدمته جل وسائل الإعلام الدولية بأنه يدخل في إطار تصفية حسابات مع صحفي لكتاباته مثلما حصل مع صحفيين من قبله. اعرف جيدا الرد الرسمي والذي يتحدث عن ان المسألة لا علاقة لها بمهنة الصحافة بل هي قضية جنائية محضة. هذه الرواية تبدو واهية أمام أي تحليل ولو سطحي لواقع الأمور. الطريقة التي يتم بها الإعتقال، استعمال وسائل الإعلام الرسمية وتلك الشبه الرسمية لضرب قرينة البراءة وشيطنة “المتهمين” امام الراي العام الداخلي،الاعتقال الاحتياطي وغير مبرر الخ من الخروقات في حق صحفيين معينين معروفين بآرائهم المعارضة، والتي من المؤكد أنها لا تعجب جزءا من مالكي زمام الدولة، بالإضافة لحيثياث كثيرة أخرى، تفقد أي مصداقية للخطاب الرسمي كما ان الأحكام القاسية تبدو مجرد عملية انتقامية لتمريغ أنف من “سخن راسه” وتجرأ على اسياده.
نفس الكلام ينطبق تماما على ما حصل مع عمر الراضي، صحفي آخر في نفس اللائحة السوداء التي لا نعرف من يحدد أعضاءها.
ومثلما ذكرت سابقا فإن الانطباع اهم من الواقع. فمهما حاولت الرواية الرسمية إقناع العالم بأننا أمام قضية حق عام فإن كل من تابع هذه القضية وقضايا أخرى قبلها يخرج بانطباع أن القضاء ما هو سوى اداة جديدة قديمة يتم استعمالها في حق الخط الأحمر الوحيد في المغرب والذي لا يجب ولا يمكن فضحه او انتقاده: الفساد بكل أشكاله، الفساد الحقيقي وليس ذلك الذي يقوم به بعض بسطاء الموظفين الذي يسهل إيداعهم السجون والقيام من خلالهم بدر الرماد على الأعين.
الأمثلة التي أذكرها هنا هي حالات تتكرر وتجمعها منظومة سياسية واجتماعية تكره الحرية وترفض المساواة. ومن اجل الحفاظ على مصالح ضيقة جدا لطبقة محدودة من الشعب المغربي فهي مستعدة للتضحية بمصالح وطن بكامله بما فيها سمعة البلاد الخارجية.
اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان لحظة حاسمة وضربة قاصمة في ظهر أعداء المغرب. هناك آلاف الطرق لاستغلال الظرف التاريخي الذي غير موازين القوى بالمنطقة والذي أعطى زخما لبلادنا لكي تستشرف المستقبل بكل تفاؤل. ولكن للأسف الشديد هناك من لا يفهم ولا يريد أن يفهم ان آخر ما يحتاجه مغرب اليوم هو تكريس هذه المقاربة القمعية التي يواجه بها كل الاختلافات.
المزعج في هذه القصة ان الضرر الذي يمس صورة المغرب من خلال مثل هذه المقاربات لا يستطيع حتى أعداء المغرب الحاقها به. اي في نهاية الامر نبدو أعداء لأنفسنا وهو ما لا يمكن لعاقل ان يستوعبه.
مغاربة موسم الهجرة إلى الشمال في ذلك اليوم المشؤوم من شهر مايو وليلة القبض على مشاغبة الانترنت التي لا تتقن اللغة العربية وسرد احداث موت “رمزي” معلن للصحفي سليمان الريسوني هو دليل آخر على ان البعض ممن يسيرون دواليب الدولة لم يفهموا بعد ماذا حصل خلال العقود الأخيرة من تحولات جوهرية عالميا كلها تصب في اتجاه المغرب. لو تخلوا قليلا عن حساباتهم الضيقة جدا جدا جدا فإن قدرنا هو الالتحاق بركب الدول المتقدمة. لدينا كل الإمكانيات لتحقيق ذلك لو استطاع صانعو القرار الحقيقيين التحرر من الطابور الخامس الذي ظاهره الدفاع عن أمن البلاد بينما هو يعمل بوعي او بدونه لمصلحة أعداء الوطن.