تطرقت الناشطة الحقوقية وعضو الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري في تونس الصحافية سكينة عبد الصمد في هذا الحوار لـ«القدس العربي» إلى وضع الحقوق والحريات في تونس في ظل الوضع الراهن.
وقالت إن ما يحصل اليوم من إجراءات هو ضرب للقواعد الدنيا لاستقلالية الإعلام العمومي ويؤشر إلى عودة جليّة وصريحة لمنظومة الإعلام الحكومي المؤتمر بأوامر السلطة التنفيذية. ودعت إلى وضع استراتيجية لإصلاح الإعلام وفتح ملفاته العالقة وإيجاد حلول جديّة وناجعة لوضعيات المؤسسات المصادرة المتآكلة ودعم المؤسّسات الخاصة لضمان ديمومتها واستقلاليتها.
وأكدت أن التطورات الأخيرة المتعلقة بموجة الملاحقات القضائية والإيقافات التي طالت صحافيّين وصحافيّات ومدوّنين وسياسيّين ونقابيّين وقضاة ومحامين من أصحاب وصاحبات الآراء المخالفة والناقدة لمسار 25 تموز/يوليو تعتبر انخراطا في آليات التضييق على حريّة الرأي والتعبير والحق في التظاهر في الفضاءات العامة والافتراضية وعلى الحقوق والحريات بصفة عامّة.
يشار إلى ان سكينة عبد الصمد انخرطت في جمعية الصحافيين التونسيين والتحقت بعضوية مكتبها التنفيذي الموسع في دورة (2004-2007). انضمت لفرع تونس لمنظمة العفو الدولية بين سنتي 2005 و2007 قبل انخراطها في النشاط السياسي المعارض لنظام بن علي ما بين 2007 و2011. وانسحبت من العمل السياسي بعد الثورة لتتفرغ منذ 2012 كليا للعمل الحقوقي والنقابي.
وتولت مهام الكاتبة العامة للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إثر انتخابها في أول مؤتمر للنقابة سنة 2008 ثم في دورتي (2014-2017) و(2017-2019).
وفي ما يأتي نص الحوار.
○ كيف ترين وضع الإعلام في تونس اليوم مقارنة بما قبل 25 تموز/يوليو؟
- يعلم الجميع أن المشهد الإعلامي التونسي عرف تحوّلا كبيرا بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011، وتعتبر حريّة الصحافة والتعبير وما رافقها من تشريعات ومراسيم وعلى رأسها المرسومان 115 و116 وقانون النفاذ للمعلومة، من أهم المكاسب التي سجلها تاريخ التطورات الحاصلة في تونس سنة 2011.
ولم تفلح محاولات الحكومات المتعاقبة خلال العشر سنوات الأخيرة، وبكلّ تعثراتها وتجاوزاتها، في انتزاع هذا النفس الحرّ والتحرّري. لكنّ السياقات الراهنة وتغيّرات ما بعد 25 تموز/ يوليو 2020 حملت مؤشرات تراجع في ضمان الحق في الكلمة الحرّة وانتكاسة جدّ مقلقة لمآل حرية الصحافة والتعبير وحق الاختلاف، بدءا بتجاوز التشريعات الضامنة لاستقلالية المؤسسات الإعلامية العموميّة والخاصة وخطّها التحريري والحامية لحرية العمل الصحافي بكل أشكاله المكتوبة والسمعية والمرئية. وكان إصدار المرسوم 54 المتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال في ايلول/سبتمبر 2022 وما يحتويه من أحكام فضفاضة وزجرية ليهمش المرسوم 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر والذي يُنظر بمقتضاه ودون سواه في كلّ قضايا التجاوزات المسجلة في مجالات التعبير والصحافة والنشر.
أما عن المرسوم 116 لسنة 2011 والذي أُحدثت بمقتضاه الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري «هايكا» لتعديل وتنظيم المشهد الإعلامي، وضمان استقلالية المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة، هذه الهيئة التعديلية أصبحت اليوم مهدّدة في بقائها كرافد من روافد مراقبة الديمقراطية وتحقيق التعدديّة والتنوّع والدفع نحو الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحافيّة.
فقد تمّ تهميشها وإرباك عملها من خلال إحداث فراغ في خطة الرئيس وهو ممثلها القانوني، والإبقاء على حالة الشغور بالتالي تعطيل سلطتها التقريرية والترتيبية وتسجيل تجاوزات لصلاحياتها الاستشارية وآخرها تولّي رئاسة الحكومة وبشكل أحاديّ تسمية رئيسة مديرة عامّة على رأس مؤسسة الإذاعة التونسية العموميّة بدون الاستشارة الوجوبيّة للهايكا وفق ما يفرضه القانون.
وفي ذلك ضرب للقواعد الدنيا لاستقلالية الإعلام العمومي ويؤشر إلى عودة جليّة وصريحة لمنظومة الإعلام الحكومي المؤتمر بأوامر السلطة التنفيذية. هذا دون العودة على تفاصيل محاولات إقصاء الهيئة وتجاهلها في مراقبة تغطية الانتخابات التشريعية الأخيرة في خرق واضح للقانون الانتخابي الذي يمنحها الولاية على الإعلام.
○ ما مدى التضييقات التي تستهدف حرية إبداء الرأي وتأثيرها على وضعية حقوق الإنسان والحريات؟
- التطورات الأخيرة المتعلقة بموجة الملاحقات القضائية والإيقافات التي طالت صحافيّين وصحافيّات ومدوّنين وسياسيّين ونقابيّين وقضاة ومحامين من أصحاب وصاحبات الآراء المخالفة والناقدة لمسار 25 تموز/يوليو لم تكن بمعزل عن التغيرات السياسيّة والتشريعيّة والإجرائية وذلك باعتماد المرسوم 54 لسنة 2022 ضدّ العديد منهم،
إضافة إلى إيداعات بالسجون دون اتهامات دقيقة وواضحة وفق ما تؤكّده هيئات الدفاع، فضلًا عن حملات الشيطنة على منصّات التواصل الاجتماعي ضد ناشطات ونشطاء في منظمات المجتمع المدني على خلفية آرائهم المعارضة لأداء السلطة الحاكمة دون تدخل النيابة العموميّة والسلطة التنفيذية عموما لوضع حدّ لوابل التشويه والمسّ من كرامة الذات البشريّة. وهو ما يعتبر انخراطا في آليات التضييق على حريّة الرأي والتعبير والحق في التظاهر في الفضاءات العامة والافتراضية وعلى الحقوق والحريات بصفة عامّة.
○ إذن كيف تنظرين إلى الملاحقات القضائية التي طالت سياسيين وإعلاميين ورجال أعمال وحقوقيين ورجال قانون؟
- شخصيّا أنا ضدّ الإفلات من العقاب بل وأؤكد إلزاميّة محاسبة كلّ من يتورّط في الفساد المالي أو الإداري وكلّ من يُجرم في حقّ الغير أو في حقّ الوطن مهما كان موقعه أو علا شأنه، على أن يكون ذلك على أسس عادلة ونزيهة وشفافة وفق القانون وباعتماد إجراءات التحرّي والتثبت من الملفات وقرائن الإدانة كما قرائن البراءة بعيدا عن التشفي أو الانتقام والعمل بالمبدأ القائم على أنّ «المتهم بريء ما لم تثبت إدانته» وليس العكس.
○ العديد من المؤسسات الإعلامية اليوم في تونس سواء المصادرة أو حتى في القطاع الخاص والعام مهددة بالإغلاق بسبب انهيار الوضع المالي وغيره فما الحل برأيك؟
- أثرت جائحة الكوفيد وبشكل كبير على الوضع المالي لجلّ المؤسسات الاقتصادية والتجاريّة ومن بينها المؤسسات الإعلامية وضاعف تأزمها الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها تونس وغياب الإرادة السياسية على مدى السنوات المتتالية بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011 لإيلاء قطاع الإعلام ومؤسساته الأهمية التي تستحق خاصة أمام ما تواجهه من تحديات تفرضها التحوّلات التكنولوجية المتسارعة والرقمنة،
ما استوجب وضع استراتيجية لإصلاح الإعلام وفتح ملفاته العالقة وإيجاد حلول جديّة وناجعة لوضعيات المؤسسات المصادرة المتآكلة ودعم المؤسّسات الخاصة لضمان ديمومتها واستقلاليتها وقدرتها على المنافسة والإسراع في تفعيل مشروع القانون الخاص بإحداث صندوق لدعم العلام وضمان جودته. هذا إلى جانب تقنين ضمانات لحقوق أهل المهنة وحمايتهم وتأمين الظروف المناسبة لتطوير للارتقاء بالحسّ الإبداعي وجودة المضامين.
○ ما تأثير ما يحصل في تونس اليوم في ظل المرحلة الاستثنائية على وضعية المنظمات المدنية والحقوقية وحرية نشاطها؟
- رغم التضييقات ومحاولات منع التظاهرات التي سجلتها المرحلة الاستثنائية، واصلت كبريات المنظمات المدنية والحقوقية تنظيم ندواتها وفرض تظاهراتها الاحتجاجية وعلت أصواتها للدعوة لمقاطعة الاستفتاء حول الدستور ثم مقاطعة الانتخابات التشريعية.
واستمرت ما بعد المرحلة الاستثنائية في الإفصاح بمواقفها المطالبة بالحق في التعبير الحرّ والحقّ في التظاهر السلمي والدعوة لسحب مرسوم 54 والتنديد بالاعتداءات الأمنية والتتبعات القضائية دون سند واضح وشفاف سواء على خلفية الآراء المعارضة أو بدعوى التآمر على الدولة.
○ في رأيك ما مدى مصداقية التصنيفات المتعلقة بحرية الإعلام التي تجعل دولا اشتهرت بقمع حرية الرأي تتفوق على تونس في الترتيب؟
- سجلت تونس تراجعا كبيرا في الترتيب السنوي لحرية الصحافة وجاءت في المركز 121 من ضمن 180 دولة بعد أن كانت في المركز 94 سنة 2022 وفي المركز 73 سنة 2021. وتموقعت في المركز الخامس عربيًا وخسرت بذلك صدارة الدول العربية التي أحرزتها بعد تحوّلات ثورة 2011.
والحقيقة ليست لديّ دراية أو معرفة جيدة للمعايير المعتمدة في التصنيفات الدولية المتعلقة بحرية الصحافة. وما يمكنني تأكيده هو التراجع الملحوظ في مردوديّة الأداء الصحافي في تونس لا فقط في منسوب الحريّة والاستقلاليّة بل حتى في مستوى جودة المضامين وهو ما يبرزه تقرير «منظمة مراسلون بلا حدود» التي أحترمها.
○ ما هي الآفاق السياسية لتونس في المستقبل خاصة بعد انتخاب مجلس نواب جديد؟
- عادة لا أميل للتشاؤم أو التصوير القاتم لكن لا يمكنني الوثوق أو بناء آمال زائفة حول أداء مجلس نيابي قاطع انتخابه جلّ التونسيين والتونسيّات. وأنى لي أن أتصور آفاقا سياسية مضيئة في المستقبل ونحن نعيش وضعا ضبابيا غير واضح المعالم وأجواء تحتكم للتخوين وانعدام الثقة في الآخر!؟
○ يحمل البعض شيئا من المسؤولية عن الصورة السيئة التي أصبحت لتونس في الخارج لبعض وسائل الإعلام، فما مدى جدية هذا الرأي خاصة من خلال تسليط الضوء على المساوئ فقط دون الجوانب الأخرى؟
- الإعلام مرآة تعكس الأوضاع العامة للبلاد والمجتمع ولا أظنه مهما تردّى أن يسلط الضوء على المساوئ فقط، بل العكس ما يشاع عن الإعلام هو أنه قد يصبح بوقا للسلطة الحاكمة تحت التهديد والوعيد، وليس العكس.
فهو إما أن يكون إعلاما حرّا مستقلا ينقل الحقيقة ويتداول حول الشأن العام بكل مسؤولية ونزاهة أو إعلاما حرّا فوضويّا وغير مسؤول يتحدث عن كلّ ما يجري دون الالتزام بأخلاقيات المهنة وضوابطها. وفي كلّ الحالات لا يمكنه تحميله مسؤوليّه الصورة السيئة لأي بلد.
○ برأيك هل المساعي الأوروبية التي تقودها جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا ستؤتي أكلها لدعم الاقتصاد التونسي ولدفع صندوق النقد الدولي للموافقة على القرض؟
- ما يجدر بالذكر بشأن مساعي زعيمة اليمين المتطرف في إيطاليا، جورجيا ميلوني، هو أن هدفها الأساسي والمفضوح منع مراكب المهاجرين من عبور البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا مركز المهاجرين غير النظاميين المتجهين من شمال أفريقيا إلى أوروبا أحد نقاط قوة في برنامجها الانتخابي خاصة وأن قانون البحار يمنع غلق الموانئ أمام المراكب.
فهي تحاول استمالة تونس أوّلا ثم ليبيا لتحرسا نقاط العبور مقابل إمدادات ماليّة ومحاولات لدفع صندوق النقد الدولي للموافقة على إقراض تونس. مساع مصلحيّة لا أظنها تنجح في دعم الاقتصاد التونسي. وليس أمام تونس سوى التخطيط الجدّي والحكيم للخروج من أزمتها الاقتصادية بعيدا عن المساومات الرخيصة.
○ هناك دعوات لعقد مؤتمر دولي حول الهجرة فكيف حل هذه المعضلة من الناحية السياسية والحقوقية خاصة ان البعض يرى ان أوروبا تريد ان تجعل تونس شرطية لحدودها؟
- واضح وضوح الشمس أهداف المساعي الأوروبية بقيادة الزعيمة الإيطالية لعقد مؤتمر حول الهجرة التي إذا نجحت سياسيا فلن يكون سوى على حساب الحقوق وضرب سيادة الدول المعنية سيما تونس وتحريكها وفق مصالحها. ولا أظن تونس ترضخ للابتزاز وتقبل بأن تكون شرطيّة لحدود إيطاليا.
○ في السياق نفسه، تونس ليست لها حدود مباشرة مع دول أفريقيا جنوب الصحراء فبرأيك من أين يتدفق هذا العدد الكبير من المهاجرين؟
- إجماليا تتدفق الأعداد الكبيرة من دول أفريقيا جنوب الصّحراء من ليبيا التي لها حدود مباشرة مع التشاد والنيجر ثم من الجزائر التي تشارك ليبيا في حدود مع النيجر، كما لها حدود مع مالي. وتعد تونس نقطة استراتيجية جغرافيا للعبور لأوروبا باعتبار قربها من السواحل الإيطالية وتحديدا لمبادوزا.