يقول المستعرب الإسباني بيدرو مارتنييف في محاضرة ألقاها في البيت العربي في مدريد عام 2015 أن اللغة العربية هي الحصن الوحيد المتبقي للعرب في كل ما يملكون من حاضر، وذلك بسبب غنى و عمق هذه اللغة. ويضيف أنه يعتبرها لغة رائعة متميزة من بين كل لغات العالم من حيث وفرة مفرداتها و القدرات المتعددة للمفردة نفسها، ومن حيث تعداد الاشتقاقات منها، و بسبب أيضا جمال و تنوع شكل التراكيب اللغوية و متانة هذه التراتيب وقدرتها على تأدية المعنى كاملاً.
و علاوة على غنى لغة الضاد و الغزارة الهائلة لمعجمها ( فهي تحتوي على أزيد من 12 مليون كلمة دون اشتقاق) و تميزها و تفردها بين لغات العالم، تعد اللغة العربية واحدة من اللغات الحديثة نسبيا، بالمقارنة مع لغات أخرى جاورتها، كالهيروغليفية و الفينيقية و الحميرية و المسمارية و العبرية وغيرها، وعلى الرغم من حداثتها النسبية، فقد احتلت مكانا بارزا في تاريخ الثقافة الإنسانية، و عرفت انتشارا واسعا لارتباطها بالإسلام و القرآن الكريم.
سنمحور حديثنا، قبل أن ندخل مباشرة في صلب الموضوع، حول أهمية اللغة العربية، ليس فقط بالنسبة للناطقين بها في العالم العربي، و لكن في الساحة الدولية بصفة عامة.
إن اللغة هي عنوان أي أمة واللسان الناطق بهويتها، و المعبر عن خصوصياتها الفكرية و المعرفية، و اللغة العربية هي جوهر الذاتية الخاصة للشعوب العربية و العنصر الرئيس في البناء الحضاري و الثقافي لكثير من المجموعات البشرية الناطقة بها منذ قرون طويلة.
و لقد علمنا التاريخ الثقافي و الحضاري للأمم و الشعوب أن في ازدهار اللغة ازدهارا للحياة العقلية، و تقدما في مضمار العلوم و الآداب و الفنون، و أن في قوة اللغة عظمة الشعوب الناطقة بها، و أن اللغة تكتسب قوتها من إبداع أهلها بها، و من تفوقهم في هذا الإبداع الذي يشمل كل مجالات الحياة العامة.
و تعد اللغة العربية من أكثر اللغات انتشارا في العالم. و بالرغم من عدم وجود إحصاءات متفق عليها عالميا حول عدد المتحدثين بلغة ما، إلا أن هناك بعض المصادر التي تشير إلى كون العربية تحتل المرتبة 4 عالميا. (المرتبة 1 : الانجليزية / المرتبة 2 : الصينية / المرتبة 3 : الهندية)، إذ يصل عدد متحدثي العربية إلى حوالي 7% من إجمالي سكان العالم، و هي واحدة من أقدم لغات المعمور، و يتحدث بها غالبية سكان الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، و خصوصا سكان البلدان العربية.
و يقبل الملايين في العالم على تعلم العربية لفهم القرآن عند تلاوته و للتمكن أيضا من النفاذ إلى المعاني و القيم الكبرى لمصنفات التراث الإسلامي.
و في عام 1974 تم اعتماد العربية كلغة رسمية سادسة في الأمم المتحدة.
و في ظل الثورة التكنولوجية التي من مظاهرها انفجار شبكات التواصل الاجتماعي و الرقمنة المتسارعة للمحتويات و المعارف، أصبحت اللغة العربية حسب تقرير حديث تم إصداره من قبل كلية دبي للإدارة الحكومية، من أسرع اللغات نموا عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي في العالم.
إلى جانب ذلك، لعبت الهواتف الذكية و التطبيقات المتنقلة دورا هاما في انتشار المحتوى الرقمي الناطق بالعربية في عدد كبير من الدول العربية و خاصة الشرق الأوسط.
و على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة طفرة هائلة في استخدام الإنترنيت في العالم العربي، حيث ارتفع عدد المستخدمين بنسبة 400% ، و وصل عدد ناطقي اللغة العربية في العالم عام 2022 إلى ما يناهز 467 مليون شخص.
و يستخدم أكثر من 88% من رواد الإنترنيت في العالم العربي منصات التواصل الاجتماعي بنشاط، ويتواصل أغلبهم على هذه الشبكات باللغة العربية و الإنجليزية، حيث تُستخدم اللغة الإنجليزية من قبل 48% من إجمالي مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، في حين تصل النسبة إلى 45% بالنسبة للعربية. وتعتبر اليمن من أكثر الدول استخداماً للغة العربية على فيسبوك، بنسبة تزيد عن 80%، وتأتي فلسطين في المركز الثاني (75%) و ليبيا في المركز الثالث (71%). أما أقل الدول استخداماً للغة العربية على فيسبوك فهي قطر (11%) و الإمارات العربية المتحدة (9%) و تونس (4%).
هل تتخذ اللغة العربية الرائجة في منصات التواصل الاجتماعي و عبر الهواتف و الشاشات الذكية أشكالا جديدة و متميزة على مستويات التعبير و الترميز و المضامين ؟
ما آثار الرقمنة (خاصة في شقها المرتبط بغرف الدردشة و التواصل على الشابكة) على اللغة العربية ؟
ما هي الخصائص التواصلية و السوسيولسانية للكتابة العربية المشفرة على الأنترنيت ؟
هل اللغة العربية الرائجة في الشابكة، و القائمة على التركيز و الهجانة و الإبداع و الخروج عن القوالب الأدبية المتعارف عليها، في خدمة التواصل، أم نحن هنا أمام نقيض ذلك ؟
إلى أي حد تساهم اللغة العربية الجديدة المعززة بالتعبيرات العاطفية Emogi في ترويج قيم الإعلام الرقمي الجديد (التشبيك، السرعة، الإيجاز، التفكير خارج صناديق الايديولوجيا…) ؟
ان التقدم العلمي و التكنولوجي الذي شهده العالم خلال ال 25 سنة الأخيرة كان له انعكاس مباشر على البنيات اللسانية و الوظيفية للغة العربية.
و عندما يضرب المثل بحضور العربية و تدفقها في مواقع التواصل الاجتماعي، فإننا نجد أنفسنا كباحثين في هذا المجال إزاء مجموعة من الآراء المتقاطعة و المتضاربة أحيانا.
و يعتبر انتشار ظاهرة كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، خصوصا عبر الهواتف الذكية و منصات التواصل الاجتماعي ممارسة تكتسي مجموعة من الأبعاد، فاحيانا توصف بأنها تهدد حروف اللغة العربية بالانقراض و تمحو خصوصيتها، لذا بات لزاما على الغيورين على لغة الضاد من هيئات مدنية و منظمات سياسية و مراكز بحوث و جامعات و مؤسسات أكاديمية أن تعمل جاهدة على الحد من خطورة انتشار هذه الظاهرة بين مستخدمي وسائل الاتصال، حيث تؤدي الظاهرة في رأيهم إلى زيادة الأخطاء الإملائية لدى المستخدمين و إلى تبخيس اللغة، ناهيك عن النيل من “قداستها”.
ان كتابة العربية بالحروف اللاتينية يضعها في حالة تمزق و تشرذم لغوي يفرضه واقع التخلف التكنولوجي و ضعف حركة الترجمة و نقل العلوم عن الغرب من لدن سائر أقطار العالم العربي. و لعل هذا الواقع ينضاف إلى خلل بنيوي لغوي على مستوى التعليم و حسم الخيارات اللغوية داخل البلد الواحد.
و هنا، تجدر الإشارة إلى أن اللغات العامية تسمح بتحقيق قدر عال من التواصل بفعل مرونتها و حركيتها الدائمة ( بحكم أنها منفتحة على اللغات الأجنبية مثل الانجليزية و الفرنسية و قابلة باعتبار طابعها الشفوي للهجانة و إعادة التركيب). و فضلا عن ذلك، فاللهجات العربية العامية مناسبة جدا للدردشة لأنها امتداد عضوي للتواصل الشفاهي ، لكنها حينما تكتب بحروف لاتينية فإنها تحيل على فوضى تواصلية.
إن هذه الفوضى المشار إليها تستحق في رأينا أن تعد لها دراسات مستقبلية رائدة و طموحة لتحديد سبل التكيف مع هذا النمط من اللغة.
إن من أبرز ما يميز اللغة العربية هي الحروف العربية، و هو علم قائم بذاته، و لعل التحول إلى الكتابة بحروف لاتينية على الانترنيت تمليه أسباب براغماتية بحتة : الرغبة في تسريع الكتابة، الايجاز، سهولة استخدام لوحات المفاتيح اللاتينية مقارنة بمثيلتها العربية… غير أن “لتننة” العربية لا يؤدي دائما إلى إيصال المعنى الصحيح. إنه يعطي في أحيان كثيرة نقيض المعنى المراد التعبير عنه، لذا فإن أفضل طريقة في التواصل، تكمن في استخدام الحروف الأصلية للتخاطب.
في السياق ذاته، نعتقد أن كتابة العربية بالحرف اللاتيني يفقدها كيانها و هويتها العميقة و قيمتها الاعتبارية في العالم، بل يجعلها لا تقاوم الصمود أمام الغزو الثقافي الهجين الذي افقدها ريادتها بين لغات المعمور.
إن تداول العربية على الشابكة يحيلنا على لغة غير العربية (في مواقع التواصل)… إننا هنا أمام لغة إذا لم يتم التصدي لها ستتحول العربية إلى مسخ مشوه من الكلمات و الأرقام العربية/اللاتينية غير المفهومة.
تأسيسا على ما سبق نطرح السؤال التالي : ما طبيعة و ما حدود التأثير الذي يمكن أن تلعبه وسائل الاتصال الحديثة في المكون اللغوي العربي كواحد من المكونات الثقافية الخاصة بمجتمعاتنا؟
للوهلة الأولى، تبدو الإجابة عن هذا السؤال أمرا معقدا للغاية، لأن السؤال المطروح شديد التركيب و يحيل على خلفيات سوسيولوجية و سيكولوجية و انثربولوجية.
لكن، رغم ذلك، نستطيع أن نؤكد على فكرة هامة : عندما سارع الشباب (في العالم العربي مثلا) إلى ابتكار لغة خاصة تسرع حسب زعمهم وتيرة التواصل الرقمي، و تعتمد على استبدال الحروف العربية التي ليس لها مقابل في الانجليزية بأرقام – كقلب الحرف حاء إلى الرقم 7 و الحرف ع إلى الرقم 3…- ، فإنهم اسهموا دون وعي منهم في طمس هوية و لغة المجتمعات العربية.
إن التقانة بحد ذاتها كما تراها بعض مدارس النقد قتل مباشر للعقل و الامتداد الفكري، و إذا لم تحقق الأشكال التواصلية المستحدثة (من تعبيرات عاطفية Emogi و رموز) فردانية و استقلالية للغة العربية عوض جعلها مجرد عبوة فارغة يمكن حشوها بأي شيء للتخلص من ترتيب جمل و أفكار متكاملة و مبنية بناء لغويا سليما… فإن اللغة تبقى جامدة و غير قادرة على التأقلم و التطور مع هذه الموجة اللامتناهية من مواقع التواصل الاجتماعي.
إن اللغة العربية المعززة بالتعبيرات العاطفية Emogi (على سبيل المثال) ليست لغة بالمعنى اللساني للكلمة، و لكنها جزء من التواصل غير اللفظي الذي يصاحب اللغة المكتوبة و يسهم في تسريع التواصل بما يتماشى مع اكراهات العولمة و الرقمنة العابرة لزمكان القرن الحادي و العشرين.
إن اللغة العربية عالم واسع و تاريخ عريق راكم فيضا من الكتب و التراث الشفاهي في الشعر و الخطابة و الأدب، بحيث لا يمكن خندقته في هذه الأيقونات و الرموز التعبيرية المستحدثة.
خلاصة
حاولنا أن نقود تفكيرا علميا هادئا و رصينا حول أهم الخصائص التواصلية و السوسيولسانية للغة العربية الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعي.
و خرجنا من عملنا بالخلاصات الأساسية التالية :
- من العقبات التي تحول دون انتشار اللغة العربية السليمة على مواقع التواصل الاجتماعي : الاستلاب الثقافي، الهيمنة التكنولوجية و العلمية لدول الغرب، ضعف حركة الترجمة، عدم مواكبة العصر…
- اللغة العربية كسائر لغات العالم كائن حي له دورة حياة، يتجدد و يتمدد في الزمان و المكان، و في ظل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي يجب الانتباه إلى المسار التواصلي و التعبيري للغة الضاد و ذلك على مستوى الترميز و الاستيعاب.
- اعتماد كتابة العربية بالحروف اللاتينية على مواقع التواصل الاجتماعي يشكل خطرا حقيقيا على الحرف العربي و يهدده بالانقراض، نظرا لانتقال لغة التواصل إلى نسق تعبيري خال من العمق الحضاري و الانتماء الهوياتي.
*كاتب، خبير تنمية ذاتية، أستاذ باحث / المعهد العالي للاعلام و الاتصال