كشف تحقيق استقصائي، أن جيش الاحتلال تعمد استهداف المدنيين في غزة، سعيا لإيقاع أكبر عدد من الضحايا بينهم في الحرب التي يشنها على القطاع منذ 7 أكتوبر الماضي.
وأجرى الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أبراهام، تحقيقا في “سيحا ميكوميت” و”ومغازين 972+” كشف عن سياسة الجيش “المتساهلة” في إطلاق النار على غزة، مستندا إلى محادثات مع مسؤولين أمنيين وأفراد استخبارات سابقين في الجيش الإسرائيلي وسلاح الجو، شاركوا في العمليات العسكرية بغزة حتى وقت قريب، وعلى أساس بيانات وشهادات تأتي من القطاع، وتصريحات رسمية للمتحدث باسم جيش الاحتلال.
وبحسب نتائج التحقيق، ففي الحرب الحالية على غزة، “وسّع الجيش بشكل كبير الإضرار بأهداف غير عسكرية، مثل المباني العامة والأبراج السكنية” أو ما يسميه الجيش “أهداف القوة”. وكذلك المنازل الخاصة التي تستخدم لسكن العائلات. وفي إحدى الحالات، وافقت القيادة العسكرية، بحسب المعلومات التي حصل عليها موقع “سيحا ميكوميت”، على “إلحاق الأذى بمئات الأشخاص غير المتورطين أثناء محاولة اغتيال أحد كبار مسؤولي حماس“.
ووفقاً للتحقيق، “ربما يكون هذا أحد الأسباب الذي يجعل نسبة الأطفال والنساء بين القتلى الفلسطينيين مرتفعة جدا؛ كما أن أكثر من 300 عائلة في غزة فقدت أكثر من عشرة من أفرادها في القصف، وهو رقم يتجاوز 15 ضعفا ممّا كان عليه في العمليات السابقة في غزة”.
وقالت المصادر التي تحدثت مع “سيحا ميكوميت” إن الجيش صادق في الحرب الحالية على المس بـ”عدة مئات من المدنيين الفلسطينيين” كـ”أضرار جانبية لهجوم كان يهدف إلى اغتيال قيادي كبير في حماس”. وقال أحد المصادر: “لقد ارتفعت الأعداد من عشرات القتلى المدنيين المعرفين كأضرار جانبية لاغتيال مسؤول كبير في عمليات سابقة، إلى مئات القتلى المدنيين كأضرار جانبية في هذه الحرب”.
وقالت خمسة مصادر مختلفة شاركت في عمليات سابقة في غزة، لـ”سيحا ميكوميت” إن عدد المدنيين الذين قد يقتلون في كل هجوم على منازل العائلات محسوب ومعروف مسبقا للاستخبارات قبل الهجوم، ويظهر بوضوح في “ملف الهدف”.
وبحسب التحقيق، فمن أسباب ازدياد قتل المدنيين وكثرة الأهداف في الجولة الحالية هناك، الاستخدام واسع النطاق لنظام “هبسورا” المبني إلى حد كبير على الذكاء الاصطناعي، ويمكنه “إنتاج” الأهداف بشكل شبه تلقائي بمعدل يتجاوز بكثير ما كان ممكنا في السابق لدى الجيش باستخدام القدرات البشرية فقط في تحديد الأهداف.
وقال مصدر إن مسؤولا استخباراتيا أبلغ الضباط بعد 7 أكتوبر، أن الهدف هو “قتل أكبر عدد ممكن من نشطاء حماس”، ولهذا كان هناك “تخفيف كبير في المعايير المتعلقة بعدم المس بالمدنيين الأبرياء”. ونقل عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في 10 أكتوبر، فيما يتعلق بالأيام الأولى للقصف، قوله إن “التركيز ينصب على الضرر وليس على الدقة”.
جيش الاحتلال صادق في الحرب الحالية على المس بـ”عدة مئات من المدنيين الفلسطينيين” كأضرار جانبية لهجوم كان يهدف إلى اغتيال قيادي كبير في حماس
وقال المصدر: “هناك حالات نقصف فيها بشكل غير دقيق، ولا نعرف بالضبط مكان الهدف ونقصف على نطاق واسع ونقتل المدنيين بهذه الطريقة لتوفير الوقت، لأنه يجب علينا العمل بجهد أكبر من أجل تحديد أكثر دقة للهدف”. وقال: “كل هذا يحدث خلافا للبروتوكول الذي كان يستخدم في الماضي بالجيش الإسرائيلي. هناك شعور بأن كبار المسؤولين في الجيش يدركون فشلهم في 7 أكتوبر، ومنشغلون بمسألة كيفية إعطاء الجمهور الإسرائيلي صورة تنقذ صورتهم هم”.
وقال مصدر استخباراتي شارك في عمليات سابقة في غزة لـ”سيحا ميكوميت”: “لا شيء يحدث بالخطأ”. وأضاف: “عندما تقتل فتاة تبلغ من العمر ثلاث سنوات في منزل بغزة، كان ذلك لأن أحد أفراد الجيش قرر أن قتلها ليس أمرا سيئا، وأن قتلها هو ثمن مستحق في نظرنا من أجل إصابة هدف آخر. نحن لسنا حماس، لا نطلق مجرد صواريخ. كل شيء موجه ودقيق. نحن نعرف بالضبط حجم الأضرار العرضية التي تحدث في كل منزل” وفق زعمه.
وبحسب إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في 11 أكتوبر، في الأيام الخمسة الأولى من الحرب، كانت نصف الأهداف التي هاجمها الجيش “أهداف قوة”: 1329 هدفا من أصل 2687. وبحسب الجيش، فـ”أهداف القوة” هي الأبراج السكنية الشاهقة أو المباني الحكومية، التي تتضمن هدفا عسكريا مشروعا يبرر تدميرها. لكن بحسب مصادر استخباراتية شاركت في التخطيط لمثل هذه الأهداف في السابق، فإن “الضرر الذي يلحق بها يهدف بشكل أساسي إلى الإضرار بالمجتمع المدني في غزة، من أجل إحداث صدمة وبالتالي ممارسة ضغط مدني ضد حماس”.
وقال مصدر شارك في العمليات السابقة: “يطلبون منا أن نبحث عن بنايات شاهقة، قد يكون فيها نصف طابق مرتبطا بحماس، وأحيانا يكون مكتب متحدث باسمها، أو نقطة يجتمع فيها الناشطون. لقد فهمت أن تحديد هذا الطابق المرتبط بحماس هو فقط وسيلة تسمح للجيش بالتسبب بالكثير من الدمار في غزة. هذا ما قالوه لنا”. وأضاف: “إذا قالوا للعالم أجمع صراحة أن مكاتب الجهاد الإسلامي في برج معين ليست مهمة بالنسبة لنا، بل يتم استخدامها كذريعة لهدم البرج بأكمله من أجل إيذاء العائلات التي تعيش فيه وبالتالي الضغط على المنظمات الإرهابية، سيُنظر إلى هذا الفعل بحد ذاته على أنه إرهاب، لذلك لا يقولون هذا”.
وبحسب المصادر التي عملت في المخابرات والقوات الجوية الإسرائيلية، يمكن تقسيم الأهداف التي تمت مهاجمتها جوا في غزة إلى أربع فئات تقريبا. الأولى هي “أهداف القوة”، وهي المباني الشاهقة والأبراج السكنية في قلب المدن والمباني العامة والجامعات والبنوك والمباني الحكومية. إن الفكرة وراء ضرب مثل هذه الأهداف، كما تقول ثلاثة مصادر استخباراتية شاركت في التخطيط، أو مهاجمة مثل هذه الأهداف في الماضي، هي هجوم متعمد على المجتمع المدني كوسيلة “لجعل مواطني غزة يمارسون الضغط على حماس”.
مهاجمة الأبراج السكنية والمقرات الحكومية والجامعات هي هجوم متعمد على المجتمع المدني كوسيلة لجعل مواطني غزة يمارسون الضغط على حماس.
والفئة الثانية هي ما يعرف بـ”بيوت العائلات” أو “بيوت النشطاء”. والغرض المعلن لهذه الهجمات هو هدم المنازل الخاصة من أجل اغتيال شخص واحد يشتبه في أنه ناشط في حماس أو الجهاد الإسلامي ويعيش في المنزل أو المبنى. لكن في الحرب الحالية، هناك أدلة على أن بعض المنازل التي تعرضت للهجوم والقتل لم تكن تضم نشطاء. وتظهر التجارب السابقة أن الهجمات على المنازل الخاصة تؤدي إلى أضرار جسيمة بالمدنيين. وبحسب تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس للأنباء عام 2014 بعد عملية “الجرف الصامد”، فإن حوالي 90% من القتلى في قصف منازل العائلات كانوا من المدنيين وأغلبهم من الأطفال والنساء.
ووفق موقع “سيحا ميكوميت”، في 11 تشرين الأول، وهو اليوم الخامس من القتال، أعلن الجيش أن أكثر من نصف الأهداف التي هاجمها حتى ذلك الحين كانت “أهداف قوة”. ووفقاً للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فقد تعرضت “الأحياء التي تشكل أوكاراً إرهابية لحماس” للهجوم، ولوحظت أضرار في “مقرات العمليات”، و”الأصول العملياتية”، و”الأصول التي تستخدمها المنظمات الإرهابية داخل المباني السكنية”.
لكن مصادر استخباراتية شاركت في تخطيط “أهداف القوة” في جولات سابقة، قالت لـ”سيحا ميكوميت” إنه على الرغم من أن الهدف العسكري يظهر دائماً في ملف الهدف، إلا أنه غالباً ما يعمل “كوسيلة تسمح بإلحاق الضرر بالمجتمع المدني”. وقال إنهم فهموا، بعضها صراحة وبعضها بشكل ضمني، أن هذا هو الهدف الحقيقي لهذه الهجمات”.
وفي الأيام الخمسة الأولى من الحرب الحالية، والتي عرفت نصف الأهداف التي تم الهجوم عليها بـ”أهداف القوة”، قُتل 1055 فلسطينيا، بينهم مئات الأطفال، وفقًا لبيانات وزارة الصحة في غزة. وبحسب الجيش، فقد تم في هذه الهجمات إلقاء حوالي 6000 قنبلة على غزة يبلغ وزنها الإجمالي حوالي 4000 طن من المتفجرات، وأفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الجيش مسح وهاجم “أحياء بأكملها في غزة”.
وقالت المصادر الأمنية إنه وفقا للإجراء المعتمد في الجيش، لا يمكن مهاجمة “أهداف القوة” إلا بعد إجلاء جميع المدنيين. لكن بحسب شهادات سكان غزة، فقد تعرضت هذه الأهداف للقصف خلال حتى دون إخلاء المدنيين منها أولاً، أو اتخاذ خطوات ملموسة لإخلائها، مما أدى إلى سقوط العديد من الشهداء.
وتقول المصادر للموقع إن هذا “قد يكون تطورا خطيرا”. وقال مصدر أمني تعامل مع “أهداف القوة” في الماضي: “إنها كانت مصممة في الأصل لإحداث صدمة، وليس لقتل المدنيين”. وأضاف: “لقد تم تصميم الأهداف على أساس افتراض أنه سيتم إخلاء الأبراج من الناس، لذلك عندما كنا نعمل عليها، لم يكن هناك أي قلق على الإطلاق في ملف الأهداف حول عدد المدنيين الذين سيتضررون. وكان الافتراض، دائما، هو أن سيكون العدد صفرا من حيث أهداف القوة، وهو إخلاء شامل، يستغرق ساعتين إلى ثلاث ساعات، يتم خلاله استدعاء المستأجرين، وإطلاق صواريخ تحذيرية وفحصها حتى بطائرة بدون طيار حتى يغادر الناس البرج”.
في الأيام الخمسة الأولى من الحرب الحالية، والتي عرفت نصف الأهداف التي تم الهجوم عليها بـ”أهداف القوة”، قُتل 1055 فلسطينيا، بينهم مئات الأطفال
وأوضح أحد ضباط المخابرات السابقين أن نظام “هبسورا”، وغيره من الأنظمة “الذكية”، يعتمد على الأتمتة ومعالجة الكثير من المعلومات من خلال الذكاء الاصطناعي، وبالتالي تمكين الجيش من إدارة “مصنع اغتيالات جماعية”، وهو ما “يركّز على الكمية وليس على الجودة”، على حد قوله.
وقال أحد المصادر إن الدافع لإنتاج كمية كبيرة من الأهداف تلقائيا، هو تحقيق لما يسمى “عقيدة الضاحية” التي تم تطويرها في حرب عام 2006 ضد حزب الله. ووفقاً لهذا المبدأ الذي وضعه غادي آيزنكوت، رئيس قسم العمليات في الجيش آنذاك، والذي أصبح اليوم عضوا في كابينيت الحرب، فإنه في الحرب ضد منظمة مثل حماس أو حزب الله، يجب استخدام القوة النارية من الجو “بشكل غير متناسب”، ومهاجمة عدة أهداف بشكل هجومي في نفس الوقت، من أجل خلق الردع والصدمة بين السكان المدنيين، الأمر الذي من المفترض أن يضغط على التنظيمات لوقف إطلاق النار.