* عزيز الحدادي
«عندما يمتلكنا القلق فإن ما نخاف منه ليس هو هذا الشيء أو ذاك، بل نجد أنفسنا إزاء تهديد عام موجود في كل مكان، دون أن يكون في أي مكان» (هيدغر)
إذا كانت الحرية تأتي بعد العبودية، فإن القلق ينبثق من الخوف، خاصة الجزع من العدم، فالحرية نعمة للفانين والقلق في صميمه عاطفة، أو اتجاها وجدانيا يضفي عليه هيدغر دلالة وجودية، يمكن إدراكها بواسطة الفهم، ومن خلال القلق يدرك الإنسان لا وجود العالم وضرورة العودة إلى الذات، ومعنى ذلك أن القلق مجرد انزياح عن العالم وعودة إلى الكينونة، لندرك أننا مهجورون، دون دعم ولا هدف وينتابنا شعور غريب وغامض، لا يمكن تحديد مصيره ولا مصدره، وبعبارة أخرى إنه التيه في الوجود، ولعل هذه هي السمة الأساسية لإنسان اليوم، الذي يجد نفسه أمام تهديد عام موجود في كل مكان، إنها الحقيقة، وليست هذه الحقيقة سوى «العالم نفسه من حيث هو كذلك»، وهيدغر يسميه (الوجود في العالم) .
قد لا نخطئ إذا قلنا إن الوجود نفسه أضحى مغتربا، وبالأحرى وجودنا في العالم تجاوز الاغتراب إلى أرقى ما في الوجود وهو القلق، ولذلك لم نعد نفهم ذواتنا ونكتشف ماهيتها إلا من خلال تجربة القلق، التي ترغمنا على الحفر في الوعي الذاتي لنكتشف هشاشة الكينونة، وبما أن القلق هو الذي يمنع الموجود البشري من التشتت في فوضى الأشياء والموجودات، إنه الأساس الأنطولوجي للموجود، بل وركيزة للوجود الإنساني الأصيل، الذي تقع الحرية والحياة تحت مسؤوليته، ولا يدركها إلا بالخبرة الوجودية الأساسية.
لا يمكن للحياة أن تكون سعيدة وممتعة، إلا حين تصبح تعيينا أنطولوجيا يجعل من العالم ما يجب أن يكون، لكن من المستحيل أن تمنع القلق من التسلل إلى كينونة الإنسان وإلا هرب من الوجود، لأن فكرة القلق لا تجد كمالها إلا في فكرة الوجود، وباعتبارهما معا يسكنان في الإنسان، بما هو إنسان، فإن تجربة وجودية القلق تظل ضرورة أنطولوجية. ذلك أن الوجود الذي يوجد في ذاته ولذاته مكتفيا بالحفاظ على ذاته، قد تعين بوصفه غاية بالمعنى الذي فهم به بارمينيد الوجود، بأنه فكر، إنهما الشيء نفسه، فالفكر فكر الوجود. ها هنا بالذات يصبح الوجود ضروريا للإنسان، بل إنه هدف ثمين للإنسانية لكي لا تفقد شعرية الإقامة في هذا العالم، لأنه من المستحيل تحقيق الوعي الذاتي، من دون وجود وفكر، وبالأحرى حفظ الذات لنفسها ومعرفة ماهيتها على نحو أفضل .
حين يصبح الأنا موجودا، هو الأنا، أعرف ينبغي الاعتراف بأن المعرفة لا تأتي إلا مما هو موجود، فهذه المشكلة الأنطولوجية هي التي تؤسس الذات الواعية، بل هي مبدأ الوجود الواعي «إنه حقا في ذاته ولذاته كما هو عليه بالفعل داخل الفكر» كما قال هيغل .والحق أن المعنى الأنطولوجي لحياة الإنسان هو هدف الفلسفة الوجودية، لأنها تسعى إلى تفسير حقيقة العيش في العالم، انطلاقا من قلق الوجود، ولذلك كانت مهمة ظاهريات الروح لا تتجاوز التأسيس الأنطولوجي على أرض مختلفة وبقصد مختلف عن تاريخ الفلسفة .ولكي نصل إلى تأسيس إشكالية الوجود كإشكالية للهوية الفارغة، أو الأنا الفارغ بوصفه مخبأ للعدمية، وبلغة كانط؛ «فبواسطة الأنا الفارغ لا نحصل على أي تغاير». وإذا قمنا بتحديد ماهية الحياة بأنها وعي بالذات، فسيكون الإنسان موجودا وسط الموجودات الأخرى، وله دلالة وجودية ممكنة بالنسبة إلى مفهوم الوعي بالذات، كما حدده كتاب «الظاهريات» لهيغل، هذا الوعي بالأنا المفكر الذي يعتمد على العقل ليسيطر على العالم .
هكذا يكون الإنسان العاقل هو الذي يحقق فكرة الحياة، لأن كل ما يعاش جوهر الحياة ولذلك ينتمي إلى ماهية العقل، لأن بنية العقل ذاتها جدلية، لا تتوقف عن إصدار الأحكام والجمع بين الشيء وضده من أجل الفهم، فالفهم هدف العقل والبرهان منهجه .وبما أن مشكلة الأنطولوجيا كانت تطرح على أنها مشكلة السعادة، فإنها الآن تسعى إلى الإجابة عن مشكلة الهروب من الوجود فهل معنى ذلك أن السعادة توجد خارج الوجود؟ وإلا كان التوجه نحو العدمية باعتبارها سعادة لمن لا عقل له، لأن العدم يتوقف حينما تحقق الأنطولوجيا غايتها، أي بناء الوعي الذاتي من أجل تحرير الإنسان من العدمية، لكي يقبل العلاج بالحرية، فلا حياة من دون حرية؛ أنا عاشقك أيتها الحرية، كما قال نيتشه .
ومع مجيء الجدل تمسي الروح في النهاية على ما يجب أن تكون معنى العالم ومصير الإنسان التاريخي ذاته، لكن حين يتحقق الوجود فيها وتسمو إلى الفكر، هكذا تمحو الزمان وتستوعبه وتفنيه وتطفئه، فالزمان هو ضرورة الروح ومصيرها. وفي الحقيقة أن الروح تضع نفسها في سياق أنطولوجي جديد وحركة خلاقة للحياة التي ينطلق منها الجدل، ومع ذاك نعترف بعمق العبارة الشهيرة التي جاءت في ظاهريات الروح «لا يحقق الوعي بالذات إشباعه إلا في وعي آخر بالذات»، ولعل هذه الحقيقة هي التي تجسد معنى الحرية، لأن الحرية تعلم كما وصفها الفيلسوف في جدل السيد والعبد، لأن السيطرة على الطبيعة تمر عبر السيطرة على الإنسان، ومن أجل إعادة بناء الطبيعة على التاريخ لا بد أن يمر الصراع عبر الطبقة الوسطى بلغة ماركس، بل وعبر الوعي بالذات بلغة هيجل.
ومهما يكن من أمر، فإن النضال من أجل الحرية شاق قد يصل إلى الموت، فالحرية أجمل ما في الوجود، ولذلك يظل رهانها هو الإنسان الحر بالماهية والذي يعرف بأنها ماهية الروح او اختها بالرضاعة، ومن الحكمة أن ننظر إلى أغلال العبد بأنها مماثلة في ضرورتها لحرية السيد، لأنهما معا تشيع فيهما الحياة؛ فكيف يمكن تفسير أن الحياة الإنسانية هي حياة تاريخية وملتحمة بالوجود ومندمجة في نسيج العالم ومصيره؟
كاتب مغربي