بين الحياةِ والمَوت!
في تلك الطفولة المُبكّرة، تعرّضتُ لمَرضٍ أَشعَرَني أنني بين الموتِ والحياة..
أمضيتُ أيامًا أقرَبَ إلى المَوت منها إلى الحياة..
كنتُ أتصوّرُ أنّني سألتحقُ بأُخْتَيّ وأَخَوَيّ الذين فارَقُوا الحياة قبل ميلادي، بسببِ مُضاعفاتِ المَجاعةِ والوباء.. ..
سيكونُ مُلتقاهُم مُفيدًا جدا.. سأعرفُ منهُم كيف هي الحياةُ بعدَ الحياة؟
أحبُّ أن أعرفَ كيف هي الحياةُ هناك..
المَعرفةُ عندي هي الأَهَمّ..
ولكن المعرفةَ لن تكُون مُمكِنَةً إلاّ عندما أكونُ هناك، في عين المكانِ والزّمان..
وشاءَ القَدَرُ أن تتَراجَعَ المَوتُ وتَنتصِر الحياة..
وصِرتُ أخرجُ إلى الطبيعة المُحيطةِ بكُوخنا..
وحالةُ تأمُّلٍ في السماء، تتَملّكُني وتُسافرُ بخيالي إلى ما قبل ميلادي، ثم إلى ما بعدَ حياتي..
وكنتُ أتصوّرُ أن حياتي ربّما لم تبدَأ بعدُ في قريتي “رأس جيرّي”، وأنها سوفَ تَبدأ، وتَتَواصَلُ في حياةٍ قادِمة، بِعَوالِمَ أخرى..
أتصوّرُ أنني بين حَياتيْن: ما قبلَ الحالية، وما بعدَ الحالية.. “جئتُ” من حياةٍ هي قبلَ ميلادي، وسوف أرحلُ إلى حياةٍ لاحِقة، بعد حياتي..
وفي خرجاتي إلى الطبيعة المُحيطة بكُوخنا، أستَقرِئ الماضي الذي كنتُ أتصوّرُه في مكانٍ ما، فوقَ السحاب، وأيضا أستقرئ المُستَقبلَ القادمَ في مكان ما، وفضاءٍ ما تحتَ أو النّجوم..
وكنتُ أتصَورُ أيضا أنني لُستُ فردًا واحدًا..
أتصوّرُنِي شخصًا مُكرّرًا: واحِدٌ هو أنا هُنا على الأرض، وآخُرُ هو أنا فوقَ أو تحت السّحاب..
وهذا الخيالُ الطفُولي جَعلنِي أنسجُ ظُروفا اجتِماعية لنفْسِيّ الثانِي، هناك فوق.. وكيف أننا معًا، أنا هُناك، وأنا هُنا، نقوم بنفسِ التّحركات، في نفسِ الوقت، هُناك وهنا..
وهذا الخيالُ الطفولي يَجمعُني بنفسِي، وأنا هنا وهناك.. وبنفسي أنا قبل ميلادي، وبعدَ حياتي..
أتصوّرُني مُحاطا بالحياةِ السابقةِ والقادمة، وبحياةٍ أخرى أنا فيها هُنا تحت السحاب، وفي نفس الوقت فوقَ السحاب..
وكثيرا ما كنتُ أخاطِبُ نفسي وأنا أتحركُ فَوق، كما أتحرك هُنا تَحت..
شخصَان هُما معًا أنا، يقُومَان بنفسِ التأمُّل، ونفسِ التّحرُّك، والمَشي والجَري وحتى اللَّعِب، هُنا تحت، وهناك فَوق..
وكنتُ متأكدا أنني لستُ وحدي هنا..
أنا لستُ وحدِي..
أنا أربعَة: الموجودُ هُنا، والمَوجودُ هناك فوق السحاب، ومَن عاش في زمنٍ سابقٍ لمٍيلادي، ومَن سوف يعيشُ في حياة ستَعقُبُ حياتي..
لستُ واحدا..
نحن اثنان نعيشُ في زمن واحد، وفي مكانيْن مُتقابلين هما: الأرضُ والسماء.. وأيضا، نحن اثنان.. نعيشُ في زمانيْن مُتباعِديْن: قبل الحياةِ الحالية، وبعدَ نفسِ الحياةِ الحالية..
أصبَحنا أربعة: اثنان في مَكانيْن، واثنان في زمانيْن..
وعلى أساس هذه الرُّؤيا، أتَمَوْقَعُ في هذا الكَون، وأجِدُ لي مَوقعًا أحِسُّ فيه بأنّنِي أنا هو أنا..
أنا واحدٌ في أربعِ نُسَخ..
– أمعقُولٌ هذا؟ أمُمكِنٌ هذا؟
إذا كان مُمكِنًا، قد أكُونُ واحِدًا في أكثرَ من أربعِ نُسَخ.. رُبّما ألف.. أو مليون.. أو ملايِير..
وفي هذه الحالة، نكُونُ كُلُّنا كائنًا واحدا.. إنسانًا واحدًا..
ومَهما يكُن، فنحنُ مُتَنوّعون، في كيانٍ واحد..
_____
– 5 –
كادَ المُعلّم…
في ذكرَياتِ القِسم، 3 مُعلّمينَ لا أنساهُم:
1 – “الهادِي المنِيعِي”: مُعلّمُ العَربية.. كان صارِمًا في التّعليم.. المِسطرةُ فعّالةٌ في يَديْه..
ولكنهُ مُنضبِطٌ لأقصَى الحُدُود..
لم يَتأخّر أبدًا، ولَو مرّةً، عن مَوعِدِ التّدرِيس.. كلّ صباح، باستِثناءِ الأحَد، ورغم الطقسِ الذي يكُونُ أحيانًا مُمطِرًا أو شديدَ البُرودة، يصِلُ إلى المَدرسة، على درّاجتِه النّارية، قادمًا من مدينة مكناس، على بُعد حوالي 20 كيلومترا..
وفي التلامِيذ من كانُوا يَسكُنون على بُعد 5 كيلومترات، أو 9، أو حتى أكثر، وكُلّهُم يكُونون في الموعدِ المضبوط.. يَصِلون في الوقت المُحدّد على دراجاتِهم الهوائية..
ويا ويلَ من يتأخّر!
يجدُنا نحنُ التلاميذُ والتلميذاتُ في انتِظارِه..
نُقبّلُ يدَهُ واحدًا بعدَ الآخَر، ثمّ يشيرُ إلينا بالدّخُول إلى القسم..
وفي الوقتِ المَضبوط، نَكونُ داخلَ القِسم..
وأغلبُنا حُفاةُ القَدَمَيْن..
والمُعلّم يكتُبُ في السّبّورة، ثم يشرحُ لنا الدّرسَ الأوّل..
وذاتَ مرّة، وهو يكتُب بالطباشير، توقّفَ والتَفَتَ إليّ: لا أنسَى الطريقة المُعوَجّة التي كتبتَ بها حرفَ الذّال، يوم أمس.. وإذا كتبتَه في وقتٍ آخر، بطريقةٍ غيرِ صحيحة، فسَوفَ أريكَ بهذه المِسطَرة كيف يجبُ أن تَكتُب..
وكانَ هذا تهديدا ليس لي وحدِي، بل لكُلّ القِسم..
وذاتَ صباح، ونحنُ في القِسم، دَخلَ التلميذُ “مولاي امحمد”.. وسألَهَ المُعلّم: “لماذا تأخّرتَ؟”؟
تَلَعثَمَ “مولاي امحمد”، ولم يعرف كيف يُجِيب.. وباغَتَه المُعلّمُ بصَفعَةٍ قويّة..
من هو “مولاي امحمد”؟ إنهُ ابنُ أحدِ أكبرِ أثرياءِ مِنطقَةِ “كَرْوَان”.. كان يَدرُسُ مع أبناءِ المُعمّرين الفرنسيّين..
وأصبحَ “مولاي امحمد” حديثَ الخاصّ والعامّ في قريةِ “رأسِ جِيرِّي”!
وما دامَ هو نفسُهُ يُصفَع، وأمامَ تلامِيذَ جُلُّهم حُفاة، وأنا مِنهُم، فماذا سيفعلُ بنا المُعلّم إن تأخَّرنا عن المَدرَسة؟
وكان هذا دَرسًا للجميع..
وتَعلّمنا منَ “السّي الهادِي” أنّ المُعلّم فوقَ الجمِيع، مُترفّع عن كلّ الفَوارِقِ الاجتماعية، وأنْ لا فرقَ بين التلاميذِ إلاّ بالاجتهاد..
2- السّي “علاّل”، مُعلّمُ الفَرنسيّة..
لم يكُن أقلّ تعنيفًا من “السّي الهادي”..
كِلاهُما يتَسلّحان بالمِسطَرة، طيلةَ الحصّةِ الدراسية..
ولولاَ هذا العُنف التّدريسي، ما تَعّلّمنا..
أسرةُ التعليم كانت مُقتنِعةً بأنّ العصَا قد خرَجت من الجنّة..
لقد تعلّمنا بفضلِ مِسطرَةِ المُعلّم..
وعندَما نشتَكِي إلى الأسرة، يُقالُ لنا: المُعلّم لا يُمكِنُ أن يَظلمَ أحدًا..
ادرُسوا جيّدًا ولن يظلِمكُم أحَد..
كانت التربيةُ هكذا..
– ولكُم أن تختارُوا!
إمّا الضّرب، أو الحِفظ..
فكُنّا نَختَار الحِفظ..
نَحفظُ حتى بدُون فَهم..
3- وكان لقِسْمِنا مُعلّمٌ فقِيهٌ اسمُه السّي “عبد السّلام”.. له حِصّةُ الدّين.. يُدرّسُها لنا نحنُ الأطفال، وشعارُهُ: ” العَصا خرجَت من الجنّة”!
ولا خيارَ لنا إلاّ المُواظبة على الحِفظ..
وعندما يسألُ أحدُنا عن المَعنَى، يُجيبُه الفقِيه: “لا تَسأل.. فهذا كلامُ الله.. اِحْفَظهُ كما هُو”..
وتَرَسّبَت في ذهني أن القرآن يُحفَظُ عن ظهر قلب..
واللهُ وحدَه يَعرفُ المَعنَِى..
المُعلّمُ الفقِيه كان يقومُ بتَحفِيظِنا القُرآن..
ونُردّدُ بَعدَهُ الآياتِ التي كان يَقرأها علينا منَ المُصحَف..
وكان بجِوارِي التّلميذُ “بنعِيسَى”، والفقيهُ يَقرأ من المُصحَف سُورةَ المُلك: “فارْجِعِ البَصَرَ هل تَرَى مِن فُطُور”..
وبدَلَ “البَصَرَ” نطَقَ بنعِيسَى: “البِيصَارَة”…
وغضِبَ الفَقيهُ غضبًا شديدًا: “البِيصَارَة ليست هُنا.. هُنا نَقرأُ كلامَ الله.. وإذا أردتَ البِيصَارَة، فاذهَبْ إلى أُمّك”!
ثمّ انهالَ عليهِ بقَضيبِ الزّيتُون..
ومنذُ ذلك الوَقت، اختَفَى التّلميذُ “بنعِيسَى”، وقيلَ لي بعدَ سنَواتٍ إنهُ في الخارِج..
كان هذا الفقِيهُ يستَعينُ على راتِبه الشّهري بكتابَةِ التّمائم لدَفعِ الجِنّ أو العَينِ أو المَرضِ ونَحوِ ذلك..
وهذا المُعلّمُ الفقِيهُ كانَ يَنصَحُنا بالذهابِ كُلّ جمُعةٍ إلى مَقبَرةِ “سيدي الوافِي”، وقراءةِ القُرآنِ تَرَحُّمًا على الأموات..
وصِرنا مُواظِبِين على المَقبَرة..
ولدى اقترابِ الامتِحان، اشتَرى التّلميذُ “مُحمّد” شَمعةً ووَضَعَها على قبرِ “سيدي الوافِي”، وطلبَ منه أن يكُون من النّاجِحين..
وفعلاً نَجحَ في الامتِحان..
وهذه الواقِعة جعَلَتني أُفكّر..
والتفكيرُ لا يُثمِرُ بسُرعة..
يحتاجُ إلى وقت..
وهذه هي النتيجة التي خَلُصتُ إليها..
– وكلَّ صَباحٍ يُوقِظُني أبي للذّهابِ إلى المَسجِد..
ولا فَرقَ بين الأيام، ولا بينَ الصّيفِ والشّتاء..
وفي المَسجِدِ نَحفظُ القُرآن..
ساعتيْن إلى ثلاثِ ساعاتٍ كلَّ صباح، قبلَ الذّهابِ إلى المَدرسة..
كُنْتُ أنا و”إدريس ولد عبد الرحمان”، نلتقِي في المَسجِد، ثم نتَوجهُ معا إلى المدرسة..
وذاتَ صباح، لاحظْنا أنّ الفقِيهَ يُملِي على الطّلبَةِ مِن المُصحَف، وهذا يعني أنهُ ليس حافِظًا..
واتّفقنا على أن نتكلّمَ حول الفَقِيهِ المُزَوّر بعدَ الخُرُوجِ مِنَ المَدرسَة..
وهذا ما حصَل..
ناقَشْنا ظاهرةَ فقيهٍ مُزوّر..
واتّفَقنا عل أن نشتكي لوالدِ إدريس، باعتِبارِ أنهُ مسؤول عن المَسجد، نيارةً عن الجماعة..
وفي نفسِ اليوم، تمّ الاستِغناءُ عن الفقيهِ المُزوّر..
وأُوتِيّ بفقيهٍ جديد..
– كانت هذه من سُلوكياتِ صغارِ “العفاريت”..
السِّحْر!
وحكَى لي “ولد السّي إبراهيم” أنّ “حمّو” وهو تلميذٌ معنا، سيتزَوّج التّلميذة “مامَّا”..
وقرّرنا أن نتَأكّدَ إن كانت كُتبُ السّحرِ فعّالةً أم لا..
اتّفَقنا على الذهاب معًا إلى سُوق “الأحَد آيت مِيمُون”..
مَشَيْنا 9 كيلُومترات، على الأقدَام، واشتَرَينا كتابا صغيرا، ثم عُدنا على الأقدام..
وفي اللّيل كُنّا معًا في غُرفةٍ من كُوخِنا، بدعوَى مُراجعةِ الدّروس..
وفتَحنا كتابَ السّحر..
فيهِ فصلٌ عن فسخِ الزّواج..
طبّقنا ما فيهِ من تعاويذَ وبُخُور..
والغريبُ أنّ “حمُّو” – بعد أيام – افترَقَ عن “مامّا”..
– وتمضِي الأيامُ والأعوام..
وبعدَ سنواتٍ طويلة، قرّرتُ أن أُعيدَ النّظر في أفكاري، وأناقِشَ نفسِي بالعَقل، مع العَقل، للتّميِيز بين المنطِفي والخُرَافِي..
لقد كنتُ مُنزلِقًا إلى خرافات.. وشعوذَة..
ولو بَقِيتُ على هذه الحال، لكُنتُ اليومَ من طوابيرِ السّحَرة، أو من حُرّاس الأضرِحة، أو المُتطرّفين.. أو كلّ هؤلاء، ومعهُم الخلطُ بين الجنّ والإنسِ والساقِطينَ في مُستَنقعاتِ تُجّار الدّين..
– يُتبَع