ناقشَ، في مرّة من المِرَار، “أستاذَا جامِعيّا « بشأنِ “أخطاءٍ لغويّة” ارتكبَها، على حين غِرّة، وهو يُترجمُ نصّا روائِيّا لأحدِ أعمدة الأدبِ الفرنسي -الرومانسي، فما كان منه إلّا أن ردّ عليهِ: ” بحال بحال”.
بادرهُ بالسؤال حالًا: كيف ذلك، أيستقيم الأمرُ إنْ قلت لك بالفرنسيّة ما مفاده كذا وكذا … ! لم يناقشهُ، تحاشى الإجابَةَ؛ بل وسارعَ إلى إكمالِ حديثه وكأنّ ما قاله هيّن، والأمر نقيضُ ذلك تماماً…
الحِوارُ أعلاهُ بين أستاذٍ وطالبٍ، وما هوّ إلاّ غيضٌ من فيضٍ. أناسٌ كُثُر؛ صحفيُّون وأساتذةٌ ومدوّنون و”مؤثّرُون” لا يُعيرون أدنى اهتمامٍ لما يكتبونه بالعربيّة.
كلّ يومٍ نقرأُ لهم القليلَ ونتابعهم. لا حرجَ إن ارتكبُوا عشرات الأخطاء الإملائيّة والنحويّة إذْ همْ يكتبون بلغة الضاد.
يرونهُ أمراً جِدّ عاد”ي”، بل ويجبُ أن يستَسيغهُ قارئُ تلك” الأخطاء” أو سامعهَا؛ بيدَ أنّهم يحرصُون أشدّ الحرصِ على ألاّ يرتكبوا خطأً واحداً إذ هم يكتبُونَ بالفرنسيّة أو بالانجليزية. كيفَ لمن لا يقرأ أن يكتب. كيف لمن يستهينُ بعظمةِ لغةٍ وبقيمتها أن يُفكّرَ مَليّاً قبلَ أنْ يَخطّ حرفاً واحدا. القراءةُ والكتابةُ توأمان لا ينفصلان.
الحرفُ، أراهُ كالجمرةِ المُتّقدةِ المُلتَهبة، قبل أن يُكتبَ، لا بدّ أن يُتأمّلَ. يجبُ أن يتحلّى الكاتبُ بالرويّة والرّزَانة. تريث،اكتب على مهلك،ابحث وكن ذا حسٍّ نقديّ وذا شُكوكٍ؛ فالشّكُّ سيدفعكَ إلى إطالةِ النّظر في كل كلمة تكتبها.
إن ارتكابَ أخطاء لغويّة أمرٌ وارد بل شرّ لاَ محيدَ عنه، لكنّ الإصرار على ارتكابه مرارا وتكراراً أمرٌ منبوذٌ.
إنّ اللغة، كما يُعرّفها ” دوسوسور” نسق منسجمٌ ومنتظمٌ من الاشارات والرّموز؛ يكفي أنْ نُمحّص النّظر في كلمة” نسق” لنتأكدَ أنّ خطأً مهمَا استسهَلنا خطُورتهُ قادرٌ على زعزعة المبنى، ومن ثَمَّ المعنى. للأسف، هناك من يودّ أن يخلق لغتهُ الخاصّة، لغة لا يحكمهَا أساسٌ ولا تنضبط لمعاييرَ متينة، لغة تُمكِّنُهُ من الكتَابة كمَا يشاءُ ويحبُّ، كما تهوى نفسهُ وترغبُ. هذه النظرة الاستسهالية التي تُجابهُ بها الأخطاءُ اللغويّة تُضّرّ باللّغةِ وتُؤذيهَا. يقولون إنّ اللغةَ وِعاءٌ للفكرِ، فما سيكونُ حالُ فكرٍ- فكرَةٍ- إذا وُضع-تْ- في قالبٍ مُعوَجٍّ ؟
مرت أيامٌ على قراءتي لمقالٍ صيّر كاتبُهُ الفاعلَ منصوباً، رُبّما لأنّ المفعول به جاءَ مُقدّماً وجوباً وآخر نصبَ نائِب الفَاعل. وما يغيظنِي أشدّ الغيظِ أنْ يأتيّ أحدُهُم ليجترّ علينَا ما قيلَ لهُ دونَ أن يكلّفَ نفسهُ عناءَ البحثِ، فيقولُ لكَ ورأسُه يكاد يخرقُ عَنَانَ السّماءِ :” قرأتُ هذا من عندِ فلانٍ وهو صِحفيّ في الجزيرة، أفنحن أعلمُ منه؟ “. أو يقولُ لكَ : ” قرأتُ هذا في روايةٍ أو مقالٍ.
هؤلاء يمنحونَ العِصمةَ لأيّ كان ويُكذّبونَ فحولَ اللّغة الّذينَ نذروا حياتهم لخدمةِ اللّغةِ نحوهَا وصَرفها وبلاغتَها. هؤلاءِ لاَ يعلمونَ أنّ لكلّ لغةٍ مراجعهَا؛ وسُمّيّ المرجعُ مرجعاً لانّه قاضٍ يُحتكمُ إليْهِ في كلّ آنٍ وحينٍ قَصدَ أن يُحفظ عِرضُ اللّغة وُتُصانُ هيبتُها من كلّ دَرنٍ.
يقالُ إنّ “سبويهِ” ، إمامُ البصريّينَ في النّحوِ لقيّ حتفهُ بُعيْدَ المناظرةِ التّي جمعتهُ بِإمامِ الكوفيّينَ ” الكسائِيّ” فيما يعرفُ بالمسألةِ الزّنبُوريّة. أتساءلُ حائِراً مُستغرباً: كيفَ ستكونُ ردّة فعلِ صاحب كتابِ “الكتابِ” لو رأى هؤلاءِ الّذينَ ينتهكونَ للغةِ عِرضَهَا؟