إن فن التواصل والتواصل السياسي في العلاقات الدولية يفرض الكثير من الحكمة في التعبير عن المواقف، سواء في باب الاحتفال، السلوك، الخطاب، والتقاط الصور، او لغة الجسد المعبر عنها، هذا الفن يحكم تصرفات رؤساء الدول والممثلين الديبلوماسيين في مقام السياسة، وحتى اللاعبين والمدربين والجماهير وغيرهم من المسؤولين في مقامي الرياضة والرأي العام، ويفرض عليهم الالتزام بالسلوك المهني المتزن، بعيدا عن الجانب الشخصي والعاطفي، الذي من شأنه أن يؤزم العلاقات بين الدول، وبين الشعوب التي تتأثر بشكل أو بٱخر بتصرفات من يمثلها، او بتصرفات بعضها البعض، سواء تعلق الأمر بالسياسة أو بالرياضة، ويفرض على الشعوب الالتزام بأخلاقيات التواصل، وعدم خلط الأوراق في التعبير عن العواطف الجياشة، والتقليل من طرف على حساب طرف ٱخر، ما دامت ” العروبة واحدة” والدم واحد .
إذا كان المحللون المهنيون في مجال العلوم السياسية والتواصل السياسي، والصحافيون المهنيون قد انتقدوا تواجد رئيس الجامعة، خاصة وأنه ” يحمل صفة حكومية أخرى تمثل الدولة المغربية” بملعب تداريب المنتخب الوطني المغربي، و في زمرتهم ما كتبته في مقال سابق نشر في موقع جريدة ” لوبوكلاج”، من منطلق مهني وصريح، ومؤشرات واضحة تؤكد أن هذا السلوك لا محل له من الإعراب من طرف السيد فوزي القجع، وخطأ ” شخصي” كان من المستحب ” تجنبه مهنيا” في هذه المباراة بالضبط، لا من ناحية تأثيره السلبي على الجانب الذهني للاعبين، ولا من حيث تأكيده على خلط أوراق السياسة بالرياضة في باب العلاقات المغربية الجزائرية وتسلسل الأحداث المتأزمة بين البلدين في الٱونة الأخيرة.
فإن تصرف بعض ” الإخوة العرب” وهم ينشرون من “باب الإشاعة” صورة أبو مازن ومتابعته لإحدى مباريات المنتخب الجزائري في كأس إفريقيا، وكأنها التقطت أثناء متابعته لمباراة المغرب والجزائر الأخيرة، في جو احتفالي يرفع فيه الأعلام الجزائرية دونا عن المغربية يطرح علامة استفهام حول فهم هؤلاء “الإخوة الكرام والأكارم” للجدوى من تنظيم قطر لهذه المنافسة الكروية التي تحمل إسم ” مونديال العرب”، من أجل الجمع، وليس من أجل مزيد من التفرقة، والأمر نفسه ينطبق على بعض اللاعبين والجماهير الجزائرية والعربية التي رفعت علم فلسطين بعد انتصار الجزائر على المغرب، وكأن المغرب أصبح بين عشية وضحاها قادما من كوكب ومن ثقافة لا تنتمي للجسم الذي تدافع البطولة مند بدايتها على توحيده.!
من المؤكد أن أوراق الرياضة اختلطت بأوراق السياسة عند هؤلاء بدون استثناء، ورغم مجهودات وسائل الإعلام المهنية والأصوات المهنية في مجال التحليل وتوجيه ” الرأي العام” سياسيا ورياضيا، في الوطن العربي برمته وبمختلف ألوانه الثقافية، الإفريقية والأمازيغية وغيرها، أو في دولتي الجزائر والمغرب وحتى فلسطين كطرف ثالث(دخيل) وباقي شعوب الدول الأخرى، إلا أن تصرفات من يفترض فيهم الحكمة قد أخرجت المنافسة من طابعها الرياضي الأخوي الى طابع سياسي انتقامي، كأن دولة المغرب أصبحت هي إسرائيل، وكأن حل القضية الفلسطينية كان رهينا بضربات الترجيح التي انتصر فيها المنتخب الجزائري على نظيره المغربي، دون أن ننتبه لتصرفات اللاعبين من كلا المنتخبين داخل رقعة الميدان، والتي تميزت بالروح الرياضية العالية، في تعبير مهني منهم على احترام مقام الرياضة وإبعاده عن السياسة.
لكن بعضا منهم “أخلط الأوراق” مرة اخرى بعفوية غير مقصودة “ربما” وتحث تأثير مخدر العواطف، ورفعوا الأعلام الفلسطينية بعد الانتصار، والمقام المهني يقول هنا أن فلسطين لا علاقة لها بمباراة المغرب والجزائر، والمقام المهني الثاني يقول أن باقي الجماهير يجب أن تقف في صف الحياد في مباراة يفترض أنها تجمع منتخبين شقيقين للجميع، والمقام المهني الثالث يقول أن المغرب والجزائر أشقاء كشعبين، وفي الرياضة والثقافة وغيرها، حتى لو كان أحدهما يسكن في مقام ” الأشقياء” في السياسة، تتعدد المقامات إذن والمعنى هو نفسه واحد.!
فرياضيا اعتبر الجزائريون أن الانتصار على المغرب هو انتقام لفلسطين، وخسارتها من المغرب برباعية في دور المجموعات، وسياسيا اعتبر الفلسطينيون الأمر نفسه سيان، مع إضافة نقطة ” تطبيع علاقات المغرب مع إسرائيل ” سياسيا، وهنا ربما نسي أو تناسى هؤلاء، مجهودات العاهل المغربي الملك محمد السادس لسنوات وعقود في خدمته للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية كرئيس للجنة القدس، وحتى في بلاغ ” التطبيع الصادر عن الديوان الملكي” لم ينتبه الرئيس الفلسطيني إلى أن البلاغ أشار إلى أن القضية الفلسطينية كانت وستبقى جوهر اهتمام المغرب والمغاربة قاطبة، وأن هذا التطبيع هو شأن وطني سيادي تفرضه المصالح السياسية والاقتصادية للمغرب، لكنه لا يعني إنكار المغرب لحق الشعب الفلسطيني في أرضه، بل أن المغرب كان واضحا في التعبير على كون هذا التطبيع من شأنه أن يفتح باب ” التواصل والتفاوض” لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي الذي طال لعقود، ولم تفلح العواطف الفارغة والجياشة والشعارات التي ترفع في المظاهرات بعد كل عدوان إسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، في إيجاد حل للقضية.
ولا في إنقاد الأطفال والأرواح من الموت المحقق، نظير الاستمرار في القطيعة السياسية وانعدام روح وفن التواصل لإيجاد الحل النهائي من جميع الأطراف، بل يستمر النفاق والكلام الفارغ من هنا وهناك وجلد الذات او تمجيدها، واتهام الٱخر بالعمالة والخيانة، والتشبث بلغة العواطف التي لا تستند الى لغة المنطق والعقل، لإخراج المنطقة وشعوبها من أزمات وحروب هي في غنى عنها.
إن فن التفاوض مع أي طرف في باب ” تواصل الأزمات”، يفرض علينا الإعتراف بالطرف المتفاوض معه، فعباس أبو مازن نفسه عندما يتفاوض مع ” الطرف الإسرائيلي” فإنه يتفاوض مع جهة معترف بها، ومتواجدة في الساحة الدولية بقوة، وإذا كنا سنلغي هذا التواجد، ونرى سلوك ” التطبيع ” من منظور ضيق جدا، فإن تفاوض الرئيس الفلسطيني بحد ذاته سيكون بدون معنى، وستكون الكلمة الأخيرة ” للمدافع والدبابات والحروب” وليس للتواصل والتفاوض والسياسية، واسرائيل لن تتنازل أبدا وستشرعن هجومها على الشعب الفلسطيني، معتبرة نفسها في وضعية الدفاع عن حقها أيضا، مثلما تشرعن القبض على الفلسطينيين وزجهم في المعتقلات، باسم الدفاع عن مواطنيها وحمايتهم..!
وبين فرضيتي الحق والواجب، وبكل حياد وتجرد، وبعيدا عن ” هرطقات العواطف” يجب علينا جميعا النظر لمثل هذه الأحداث بعين سوسيولوجية ثاقبة تناقش الظواهر كأشياء كما يقول أوغست كونت، مع فصل الذات عن الموضوع كما يقول دوركايهم، ونلتزم بأخلاقيات التواصل كما يقول هابرماس، ونضع مسافة واضحة بين النقاش العاطفي والنقاش المهني، وبين الجوانب الشخصية في الرياضة والسياسة والجوانب المهنية التي من شأنها الدفع بتحقيق الأهداف الإيجابية من أي تظاهرة رياضية ” كمونديال العرب” أو مؤتمر سياسي ما، او أي سلوك كيف ما كان، في كنف الفرد أو الجماعة.
وإلا فإن هذه التصرفات، لن تكون سوى ” هرطقات سوفسطائية” تواصلية ورياضية وسياسية بتعبير فلسفي، تغديها الإشاعات المغرضة، التي لا تغني ولا تسمن من جوع بتعبير ديني، وبدل أن تساهم في تقارب وجهات النظر، والتفاوض من أجل إيجاد الحلول، وفق ضوابط ” علم وفن التواصل” ستساهم في مزيد من التفرقة، والدليل هو ما نشاهده من نقاشات حادة في مواقع التواصل الاجتماعي بين مختلف الأطراف، وعدم احترام ” مكانة وقداسة المغرب” بين باقي الشعوب العربىة، هذا دون التركيز على ردود فعل ” جنرالات الجزائر” وكيف وصفوا هذا الفوز على المغرب في بلاغاتهم الرسمية، وكأنه فوز في معركة بين معسكرين جديدين يمهدان لقيام الحرب العالمية الثالثة، فالأقلام رفعت ها هنا، والصحف جفت من شدة الدهشة والاستغراب. فنون_التواصل_ال