اختار أجود الثمور، وألذ الحلويات، وأجمل كؤوس الشاي والقهوة، وقضى الليل بطوله يحفظ نصًا كتبه له أحد شعراء المعتزلة، ذاك النص الذي أدخله في عزلةٍ طوعية، شادًّا مئزره، كاتمًا صوته، مقيّدًا رجليه الرقيقتين. ظنّ أن تلك العزلة ستنسيه مرارة “إمارة قبيلة الدكاكين والمشاطين” التي كان يحكمها في أيامه الخوالي.
قبل صياح الديكة، ملأ دابته الشهيرة بكل ما لذّ وطاب، وانطلق مهللًا ومكبّرًا تارة، ومغنيًا تارة أخرى، مرددًا كلماتٍ حفظها عن “معلميه” المتمرّسين في فنون البسط والجمع والقسمة…
وجهته: دار البياضة، حيث سيُقام حفل التنصيب المنتظر.
في قاعة الاجتماعات الكبرى، اجتمع المصفقون رغماً عن أنوفهم، صباح يومٍ مشمس، لحضور أبهى المراسيم التي سيؤتّتونها بأنفسهم، كل شيء كان يوحي بجلسة رسمية فخمة: طاولات مصقولة، أوراق مرتبة، وجوه جادة تتصنع الوقار…
لكن المفاجأة لم تتأخر!
ما إن دخلوا القاعة حتى لمحوا مشهدًا غريبًا:
ثلاجة صغيرة تقف بجانب الجدار، وأكياس مبعثرة في الزاوية، كأنها هدايا مهرجان قروي لا اجتماع رسمي، تبادل الحاضرون النظرات، وهمس بعضهم متسائلًا، قبل أن يقطع صاحب المبادرة الشكّ باليقين، مبتسمًا بثقة قائلاً:
“إخواني، هذه فقط بادرة بسيطة… تشجيعًا على الحضور والمشاركة الإيجابية !”
تعالت التصفيقات فورًا، كما لو أن القاعة تدار بزرّ كهربائي، وتظاهر الجميع بالانبهار.
في الصف الأمامي، همس عبد القادر، المفتش العجوز الذي شهد كل أنواع الاجتماعات منذ عهد السبورة الخشبية، في أذن زميله:
“آه، بادرة إيجابية جدًا… خصوصًا وأنها تُوزَّع قبيل الانتخابات !”
انفجر زميله ضاحكًا، بينما في الركن الخلفي كانت السيدة فاطمة تفتح كيسها بحماسٍ طفولي، منادية بأعلى صوتها:
“شوفوا ! تمر ممتاز، وكيس حليب، وحتى علبة رايب!”
ضحك الجميع، إلا المصطفى، الموظف المتفائل الذي لا يرى في الكأس سوى نصفه المملوء، فرفع صوته قائلاً: “والله، هذه خصلة من خصل المغاربة… الكرم ماشي جديد علينا!”
عمّت القاعة موجة من الضحك الممزوج بالتصفيق، وتحوّل حفل التنصيب إلى وليمة انتخابية بطعم الحليب والتمر.
أما صاحب المبادرة، فجلس مزهوًّا في مكانه، يوزع الابتسامات كما يوزع الهدايا، مطمئنًا إلى أن كل تمرٍ يُلتهم.، هو صوتٌ مضمون في الصندوق.















