قبل عدة سنوات، وبعدما كانت ملايين الأطنان من فائض مياه الأمطار تذهب سدى وتهدر على مصبات الأنهار والوديان على الواجهتين البحريتين للمغرب، ستصبح الآية معكوسة إذ سيتحول جزء من مياه المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط إلى مياه عذبة بعد انخراط المملكة في مشاريع ضخمة للتحلية لتجاوز الإجهاد المائي الناتج عن توالي سنوات الجفاف.
تحلية مياه البحر لم تعد إذن خيارا بل ضرورة ملحة في ظل التغيرات المناخية المقلقة التي يعيشها المغرب منذ سنوات والتي تهدد بشبح العطش والعصف بالقطاع الفلاحي الذي يشكل دعامة رئيسية للإقتصاد في حال ما لم يتم اتخاذ خطوات ومبادرات استباقية وملموسة.
إشكالية الماء .. الخلف على خطى السلف، عناية ملكية موصولة بقضية تكتسي طابعا استراتيجيا:
إذا كان المغرب قد انخرط في عهد المغفور له الملك الحسن الثاني، في اعتماد سياسة مائية استباقية تميزت بتشييد السدود التي ساهمت خلال عقود في تحقيق التوازن المائي وتلبية حاجيات قطاعات رئيسية من الماء حتى في الظروف الصعبة ، فإن عهد جلالة الملك محمد السادس تميز بمواصلة سياسة بناء السدود علاوة على إطلاق أوراش ضخمة أخرى تروم تعبئة المياه غير التقليدية، لاسيما من خلال إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة في سقي المساحات الخضراء وتحلية مياه البحر لدعم سد الحاجيات من الماء الصالح للشرب خاصة على مستوى المدن الساحلية، وكذا لتوفير مياه السقي الموجهة للقطاع الفلاحي.
خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان في 14 أكتوبر 2022 كان بمثابة ناقوس للخطر بشأن أزمة الجفاف وندرة المياه التي يعاني منها المغرب في السنوات الأخيرة ، حيث أبرز جلالته أن إشكالية تدبير الموارد المائية أضحت تطرح نفسها بإلحاح، خاصة و المغرب يمر بمرحلة جفاف صعبة، هي الأكثر حدة، منذ أكثر من ثلاثة عقود.
فالمغرب أصبح يعيش في وضعية إجهاد مائي هيكلي، لذلك دعا جلالته إلى أخذ إشكالية الماء، في كل أبعادها، بالجدية اللازمة، لاسيما عبر القطع مع كل أشكال التبذير، والإستغلال العشوائي وغير المسؤول، لهذه المادة الحيوية.
وبالإضافة الى الخطب الملكية، حظيت إشكالية الماء باهتمام والتتبع المباشر لجلالته إذ ترأس على مدار الأعوام الماضية عدة جلسات عمل خصصت لهذه المسألة، تكللت بإخراج البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020 – 2027 الذي ارتفع الغلاف المالي المخصص له من 115 مليار درهم إلى 143 مليار درهم، بتعليمات ملكية سامية رمت إلى تسريع وتيرة هذا البرنامج، وتحيين محتوياته.
في جلسة العمل الأخيرة المنعقدة في 16 يناير من العام الجاري تم التوقف عند الوضعية المائية، والتي عرفت خلال الفترة من شتنبر إلى منتصف يناير 2024، تسجيل عجز في التساقطات بلغت نسبته 70 بالمائة مقارنة مع المعدل، فيما بلغت نسبة ملء السدود 23.2 بالمائة مقابل 31.5 بالمائة خلال الفترة نفسها من السنة الماضية.
بلاغ للديوان الملكي صدر عقب الجلسة، أشار إلى أنه سيتم في إطار رفع تحدي الأمن المائي، تسريع وتيرة إنجاز الأوراش المبرمجة التي لها وقع على المدى المتوسط، وخصوصا السدود في طور التشييد ومشاريع الربط بين أحواض سبو وأبي رقراق وأم الربيع، والبرنامج الوطني لمحطات تحلية مياه البحر، وبرنامج إعادة استخدام المياه العادمة المعالجة، وبرنامج اقتصاد الماء على مستوى شبكة نقل وتوزيع الماء الصالح للشرب ومياه الري.
تحلية مياه البحر .. إطلاق أوراش ضخمة وواعدة بالشراكة بين القطاعين العام الخاص :
الوضعية المقلقة للموارد المائية في المغرب ، فرضت على الحكومة تسريع وتيرة عملها وفتح قنوات التواصل مع المواطنين لوضعهم في الصورة وتفادي المفاجآت، وتعكس تصريحات وزير التجهيز والماء نزار بركة، خلال جلسات البرلمان انشغال الجهاز التنفيذي بهذه الإشكالية حيث أشار الوزير في هذا الصدد إلى أن تحلية المياه أضحت من الأولويات في تدبير العجز المسجل في الموارد المائية الذي أصبح معطى هيكليا في ظل تداعيات ظاهرة التغير المناخي.
وأوضح الوزير في هذا السياق، أن 50 في المائة من المياه الصالحة للشرب سيتم توفيرها في أفق سنة 2030 عن طريق تحلية المياه، مشيرا إلى أن الحكومة أعدت مخططا لإنشاء العديد من محطات التحلية بهدف الوصول في أفق سنة 2030 إلى إنتاج مليار و400 مليون متر مكعب خاصة وأن المغرب حباه الله بموقع استراتيجي إذ يملك واجهتين بحريتين.
ولخفض كلفة إنتاج الماء الصالح للشرب، حرصت الحكومة في إطار هذا المنظور على أن تستخدم محطات معالجة مياه البحر الطاقات المتجددة وفقا لبركة الذي أشار إلى أن المغرب يصنف، بفضل هذا التوجه، ضمن البلدان الأقل كلفة في مجال تحلية المياه على الصعيد الدولي.
أمام وضعية الاجهاد المائي ، يمكن القول إن المدن الساحلية للمملكة تنحو نحو استعمال تحلية المياه على غرار الدار البيضاء التي انطلق المشروع الخاص بها حيث سيتم الشروع في تحلية المياه في أفق 2026-2027، وكذلك آسفي في أفق 2025، والناظور ، وتطمح الوزارة إلى تشييد 20 محطة لتحلية المياه.
وتتوقع الوزارة الوصية على قطاع الماء أن يمكن برنامج محطات تحلية المياه من تجاوز الوضعية الراهنة في أفق سنة 2027 وبالتالي ضمان تزويد الساكنة بالماء الصالح للشرب بنسبة 100 في المائة بالمناطق الساحلية، فضلا عن تخصيص مساحة تصل إلى 100 ألف هكتار لإنتاج المواد الغذائية الأساسية.
محطات نموذجية للتحلية تبشر بالخير:
أولى الغيث قطرة ، لذلك يمكن وصف محطة اشتوكة لتحلية مياه البحر الواقعة في جماعة انشادن بالمشروع النموذجي الذي يبشر بالخير إذ يعمل على سقي سهل اشتوكة وتزويد أكادير الكبير بالماء الشروب في إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص.
ووفقا لوثيقة حصل عليها موقع “لوبوكلاج” تقوم هذه المنشأة التي بلغت تكلفتها 4.42 مليار درهم بسقي 000 15 هكتار من البواكر لفائدة 500 1 فلاح في سهل اشتوكة.
وتصل سعتها الأولية لمحطة تحلية المياه هذه 000 275 متر مكعب في اليوم، منها 125000 متر مكعب في اليوم للسقي والباقي لمياه الشرب. وسترتفع قدرة المحطة تباعا لتصل سعتها النهائية إلى 000 400 متر مكعب في اليوم، عند ذلك ستصل الكمية المخصصة للسقي إلى 000 200 متر مكعب يوميا.
إضافة إلى حماية الفرشة المائية للمنطقة ، سيمكن هذا المشروع من تفادي ضياع 9 مليارات درهم من القيمة المضافة وخسارة رأس مال يقدر ب 3 مليارات درهم . كما سيمكن من إحداث مليون يوم عمل في السنة.
بدورها تعتبر محطة تحلية مياه البحر بجهة البيضاء-سطات التي يعمل المغرب على إنجازها أكبر محطة على مستوى القارة الإفريقية بسعة ستصل إلى 300 مليون متر مكعب في السنة، منها 250 مليون متر مكعب مخصصة للشرب فيما يوجه الباقي إلى سقي أراض فلاحية بالمنطقة والهدف تجاوز أزمة الموارد المائية الناجمة عن حالتي الإجهاد المائي وارتفاع الطلب على المادة الحيوية بهذه الجهة ، التي توصف بالقلب النابض للمملكة من الناحية السكانية والاقتصادية.
إعادة النظر في الاختيارات الفلاحية وترشيد استهلاك الماء عاملان حاسمان في نجاعة السياسة المائية
الخبير في قضايا الماء والبيئة عبدالحكيم الفيلالي قال في تصريح لموقع “لوبوكلاج” إن ما تم إنجازه في مجال السياسة المائية بالمغرب تم من خلال الإشراف الفعلي لجلالة الملك وتوجيهاته التي تضمنها على الخصوص خطاب افتتاح البرلمان عام 2022 الذي يعد مرجعا للسياسة العمومية في هذا المجال تنضاف الى ذلك الجلسات التي ترأسها جلالته بحضور رئيس الحكومة والوزراء المعنيين بقطاع الماء.
وسجل أن محطات تحلية مياه البحر تعد من أهم الاختيارات الاستراتيجية التي اعتمدها المغرب بهدف تنمية و تنويع العرض المائي بحكم أن الجفاف أضحى معطى هيكليا ، لذلك فالاستثمار في المياه غير التقليدية كمياه البحر يتوخى تحقيق شعار استدامة الموارد المائية وكذا النمو الاقتصادي خاصة على المستوى الفلاحي.
ودعا الفيلالي إلى اتخاذ إجراءات أخرى موازية من قبيل ترشيد استهلاك الموارد المائية خاصة في القطاع الفلاحي الذي يستهلك 90 في المائة من هذه الموارد علاوة على إعادة النظر في الاختيارات الفلاحية .
وأشار الى أن توزيع المحطات التحلية على التراب الوطني لم يأت بشكل عشوائي بل تم وفق معايير الخصاص المائي الذي تعرفه العديد من المناطق بدءا بالاقاليم الجنوبية مرورا بالمناطق الجنوبية الوسطى مثل أكادير ثم الجديدة وآسفي والدار البيضاء وصولا الى المناطق الشمالية بما في ذلك الممتدة ما بين طنجة والسعيدية ، معتبرا أن من شأن هذه المحطات ان تؤمن حاجيات هذه المناطق من مياه الشرب و السقي أيضا.
وتوقف في هذا السياق عند نموذج محطة منطقة أكادير التي أمنت حاجيات ساكنة أكادير سواء تعلق الأمر بالسقي ولو نسبيا ومياه الشرب كذلك ، معتبرا أن تشغيل محطة تحلية الماء بالدار البيضاء سيجعل ساكنة هذه المنطقة في منأى عن شبح العطش الذي كان إلى وقت قريب يهددها .
لا شك أن الخطوات التي قطعها المغرب في مجال الحفاظ على موارده المائية التقليدية والشروع في استغلال أخرى غير تقليدية كتحلية مياه البحر تكتسي أهمية كبيرة لتأمين حاجيات الساكنة في ما يتعلق بالماء الشروب وكذا في القطاع الفلاحي ولو نسبيا إلا أن ترشيد الاستهلاك في الماء وإعادة النظر في الاختيارات الفلاحية التي تستنزف الموارد المائية المتاحة يظلان كذلك من المفاتيح الحاسمة لتحقيق النجاعة المائية المنشودة في انتظار انفراج أسارير السماء مجددا وعودة أمطار الخير التي تجود بها السماء على العباد والأرض العطشى.