” لا أستطيع أن أتزوج رجلاً بعد رحيلك. كنت لي الحبيب والصديق والسند، ومن المستحيل أن أجد رجلاً مثلك “
كان من عادة سلوى، وهي ترتشف قهوة الصباح في شرفة منزلها الباريسي، أن تراودها هذه الأفكار وتملك كيانها.. صحيح أن سعيد مات وشبع موتاً منذ أكثر من سبع سنوات، لكن روحه تحلق فوق رأسها مثل الحمامة الوديعة وذكراه خالدة لا ولن تنمحي…
في يوم غائم من أيام باريس الموسومة برماديتها ورصاصيتها الثقيلة من عام 1987، كانت سلوى تسير ببطء عبر شارع مونمارتر. وكان الهواء الرطب يدغدغ وجهها ويذكرها بزوجها الراحل، سعيد، الكاتب الكبير الذي كان يملأ حياتها ببهجة الكلمات والحروف.
كان إبراهيم ذاك الرجل الدخيل الذي أراد أن يندس في حياتها بعد وفاة سعيد، ويومذاك التقت به في نفس الشارع الذي التقت فيه بزوجها لأول مرة.
كان إبراهيم رجلاً وسيمًا ذا كاريزما لا تقاوم، وقد أحبها من النظرة الأولى. لكن ذلك لا قيمة له في نظرها، فسعيد كان يملك كاريزما الإنسان والكاتب المفكر في الآن نفسه، وما الحب إلا للحبيب الأول.
كان ذلك اليوم من حياة سلوى في العاصمة الفرنسية مفعماً بالذكريات والشجون؛ فها هي ذي تزور مقهى الأدباء الذي كان زوجها يجلس فيه يومياً ليكتب. وها هي ذي تجلس في زاوية هادئة، تتأمل المكان وتسترجع الذكريات.
# الماضي فات لكنه لم يمت، وهو حاضر في وجداني بقوة حبي لك الذي لا يموت. سعيد.. أنت هناك، لكنك في أعماق قلبي #
كانت تلك اللحظات والأفكار التي خالجت سلوى تفيض بالألم النبيل والحب الصادق، وبكثير من الذكرى علاوة على جرعة لا تنفذ من الحنين.
كان سعيد زوج سلوى الراحل كاتبًا سيال القلم متوقد الفكر غزير الإنتاج، وكان قد كتب عشرات الروايات والقصص التي ألهمت القراء حول العالم. كان يعشق الكتب لدرجة تجعل سلوى تشعر أحيانًا بالغيرة. وكان سؤالها له دائمًا هو التالي: “اعترف.. هل تحب الكتب أكثر مني؟” وفي كل مرة كان يطمئنها قائلاً: “أنت مصدر إلهامي، أنت إشراقة الفكر ومنبع خيالي المتجدد. تخيلي لو ظللت وحيدًا دون زواج، هل كنت لأكتب بهذه الغزارة؟ مستحيل.”
كانت الكتب تملأ بيت الزوجية، وكانت سلوى دائمًا تشعر بأن هذه الكتب والموسوعات والمجلات التي تزدان بها مكتبة سعيد الضخمة تنافسها في حب زوجها.
ولكن في لحظات تعقلها النادرة وعودتها إلى جادة الصواب، كانت سلوى تدرك أن هذا الإدمان الطاهر على العلم والكتابة أفضل بكثير من إدمانات أخرى قد تدمر الإنسان: الحشيش، الخمر، القمار، النساء… و هلم جرا…
لحسن الحظ لم يكن سعيد المشمول برحمة الله لا مدمن مخدرات ولا زير نساء ولم يشرب طيلة حياته قطرة خمر واحدة…
و بعد وفاة زوجها بسكتة قلبية وهو لم يكمل بعد عامه الثامن والأربعين، تلقت سلوى عدة عروض للزواج، ليس لأنها كانت فاتنة الجمال فحسب، ولكن لأنها كانت ذات عينين عسليتين حلوتين يذوب في هواهما القاصي والداني إضافة إلى شخصية جذابة قوامها المرح والتفاؤل والإقبال على الحياة…
و من ضمن هؤلاء الفرسان المغاوير الذين تنافسوا على الفوز بقلبها كان هناك إبراهيم، وهو طبيب لامع تكاد عيادته لا تخلو من المرضى لحسن تعامله ولرقة قلبه…
مر الأسبوع تلو الأسبوع، والشهر تلو الآخر، واستمر إبراهيم في ملاحقة سلوى طالباً منها الزواج على سنة الله ورسوله، لكنها رفضت بشدة، وفاءً لذكرى زوجها. كان هذا الرفض صدمة قوية لإبراهيم، دفعته لكتابة رسالة غرام غير عادية، استلهمها من رسالة بنيامين فرانكلين الشهيرة.
و في لحظة من التمزق العاطفي، كتب لها إبراهيم ما يلي:
“سيدتي العزيزة، كانت مصارحتك لي باعتزامك البقاء أرملةً وحيدةً حتى تلحقي بزوجك ضربةً قاسيةً لم أستطع الصمود أمامها. لقد تركتني مكهرباً مصدوماً مضطرباً، ومضيت أتقلب من أسى مرير إلى يأس قاتل. لم أتمكن من النوم، فأخذت منوماً شديداً وتهالكت على الفراش لأهرب من الحقيقة المرة. رأيت فيما يرى النائم، رأيت نفسي قد انتقلت إلى العالم الآخر. ورحت أجري فيه بحيرة ولهفة كمن يبحث عن عزيز فقده. فجأةً رأيت أمامي ملاكاً جميلاً، تقدم ليسألني عن وجهتي. قلت له: أريد ركن الفلاسفة. قال: هناك في طرف الحديقة يقيم فيلسوف وكاتب هما سقراط وسعيد.
قادني الملاك إلى مكان إقامة زوجك سعيد، الذي استقبلني ببشر وترحاب. أخذ يسألني عن الحرب والدين والحرية، وكنت عند كل سؤال أجيبه وكلي رغبة أن يكف عن أسئلته لأوجه له السؤال الذي جئت من أجله. أخيراً سألته: لمَ لم تسألني عن شريكة حياتك التي أسعى إلى الظفر بقلبها بعد رحيلك إلى الرفيق الأعلى؟
أرسل سعيد زفرة حارة وقال: أنت تعيدني إلى ذكريات الماضي التي يجب أن ينساها الإنسان هنا ليعيش سعيداً. اضطررت هنا أن أنساها وأتزوج من جميلةٍ أخرى تسعى لإسعادي بكل جهد.
في الحقيقة، تفاجأت وقلت له: زوجتك على الأرض أوفى منك، لأنها لا تريد أن يلمسها رجل بعدك. أحببتها وطلبت يدها فرفضتني وفاءً لذكراك.
ابتسم سعيد في إشفاق قائلاً: إني أرثي لحالك وحالها. وفُتِحَ الباب، ودخلت زوجته في العالم الآخر. وكم كانت دهشتي عندما وجدت أنها زوجتي أحلام التي فارقت الحياة بعد ثلاث سنوات فقط من زواجنا!
سألتها: ألم تقسمي أن تكوني لي وحدي؟ أجابتني ببرود: لقد كنت لك زوجة طيبة في الدنيا. أما هنا، فنحن في عالم آخر لأنني التقيت برجل ربطت السماء مصيري به.
صعقت لردها البارد، وهجمت لأضربها فأفقت من حلمي. ولكن لا يزال في وسعي أن أنتقم منها وأنا مستيقظ. بل في وسعك أنتِ أن تنتقمي من زوجك أيضاً. هيا يا عزيزتي، ننتقم منهما سوياً.”
عندما قرأت سلوى رسالة إبراهيم، شعرت بمزيج من الدهشة والتسلية. كانت تعرف أن حب إبراهيم لها صادق، لكنها لم تكن تستطيع خيانة ذكرى زوجها. ورغم ذلك، أخذت الرسالة مكانها في قلبها وأثارت فيها تساؤلات جديدة.
و بعد خمسة أيام، جلست سلوى في نفس المقهى الذي كان يجمعها بزوجها، وتذكرت كلماته الأخيرة: “أنت مصدر إلهامي، ومنبع خيالي المتجدد.” أدركت أن حبها لزوجها سيظل خالداً في قلبها، لكن الحياة يجب أن تستمر، وربما كان حب إبراهيم لها يمثل فرصة جديدة للحياة وإعادة اشتعال الحب في القلب.
مر أسبوع آخر، وقررت سلوى أن تكتب رسالة لإبراهيم، رسالة تحمل في طياتها الاحترام والتقدير، ولكن أيضاً قرارها بالبقاء وفيةً لزوجها الراحل. وكتبت له ما يلي:
إبراهيم المحترم،
لقد تأثرت برسالتك الجميلة التي لمست قلبي بعمق. ولكنني قررت أن أظل وفيةً لذكرى زوجي الراحل. حبك واحترامك لي محل تقدير كبير، وأتمنى لك كل السعادة في حياتك. بدوري، ستستمر حياتي كما هي وسأبقى حاملة في قلبي لذكرى زوجي الراحل، الذي غادرنا إلى العالم الآخر، لكنه حاضر معي في كل مرة أجلس فيها لأقرأ أو أكتب…
مع أطيب التحيات،
سلوى