أثار شراء إيلون ماسك لموقع تويتر كثيراً من ردود الأفعال المتناقضة، وأعاد طرح المسائل المتعلقة بـ«الحروب الثقافية» التي تشهدها الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة. فالملياردير متعدد الجنسيات، الذي يشبهّه البعض بنمط متكرر في قصص الكوميكس الأمريكي عن الأبطال الخارقين، أي الثري العبقري غريب الأطوار، الذي من السهل أن يصبح شريراً، لم يعتبر شراءه لأحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي مجرد صفقة ناجحة، بل تحدث عن أهمية هذه الخطوة لحرية التعبير والديمقراطية، لأن تويتر هو «الميدان الرقمي العالمي، حيث تتم مناقشة القضايا الحيوية لمستقبل البشرية».
ما يريده ماسك إذن هو السيطرة على ما يشبه الحيز العام الكوني، الذي يتم فيه تداول الأفكار والرموز والخطابات. وهذا يعني أنه سيصبح المشرف على الخوارزميات المتطورة، القادرة على لفت الانتباه لقضية معينة، وجعلها «ترينداً» متداولاً بين الناس. وتوجهه واضح، فهو يريد أن يواجه «ثقافة الإقصاء الجديدة»، بعد تأكيده، في تعليقه حول خسارة شبكة نتفليكس لعدد كبير من مشتركيها، أن «فيروس الووك Woke لم يعد من الممكن مشاهدته». مبدياً تأييده لاعتباره «أكبر تهديد للحضارة الإنسانية».
من الصعب تحديد ما يزعج ماسك في أيديولوجيا «الووك»، أي الأفكار المرتبطة بسياسات الهوية، وتغيير الخطاب العام بما يتناسب مع «الصواب السياسي»، وحماية الذوات الفردية من أي عدوان كبير أو مصغّر، ولكن من الواضح أنه استطاع بهذه التصريحات، استقطاب فئات كثيرة، خاصة المحافظين الأمريكيين، الذين اعتبروا تويتر دائماً متحيزاً للحزب الديمقراطي الأمريكي. ترامب نفسه أبدى تفاؤله من استملاك ماسك لتويتر، رغم رفضه العودة للموقع، الذي تم حظره فيه سابقاً. يمكن ملاحظة أن ماسك لم ينتصر لـ«حرية التعبير» بعد فوزه بمعركة أيديولوجية طاحنة، أو بنضال خاضه أمام سلطات قمعية تسكت مخالفيها بالعنف والإرهاب، بل بمجرد توقيعه عقداً «حراً» مع من يفترض أنهم خصومه الأيديولوجيين، من مالكي تويتر السابقين، المناصرين لـ «الووك». والأهم أن المتفائلين به يدركون أنه بمجرد استملاكه للموقع الشهير، وسيطرته على خوارزمياته، سيتمكن من تغيير جانب كبير من الشرط الأيديولوجي المعاصر، دون الحاجة لكثير من الجهد الثقافي أو النظري. يبدو «نضال» ماسك الأيديولوجي فارغاً من المحتوى، ويشبه كثيراً ثروته نفسها: فقاعة مالية، لا يوجد في ما تُنتج شركاته من سلع وخدمات فعلية ما يسندها، بعد أن تضخّمت بشدة نتيجة المضاربات والتأثير في حركة البورصات. فما تأثير سيطرة سيد الفقاعات المالية والأيديولوجية هذا على جانب مهم من التواصل الافتراضي؟ وماذا سيحدث عندما يصبح ملايين البشر متصلين بشبكة يحدد ماسك خوارزمياتها؟
على شبكة ماسك
يبدو مآل شبكات التواصل الاجتماعي مخيباً للغاية، بالقياس إلى الآمال التي علقت عليها مطلع العقد الماضي: فرصةً للتحرر من الرقابة السياسية والاجتماعية، خاصة في الدول التي تعاني من الاستبداد؛ وأسلوباً لإنتاج شكل جديد من التنظيم «الأفقي» بين البشر، يتجاوز النموذج التقليدي للتنظيم الهرمي. أي أن الأفراد، وفق هذا المنظور، سيتواصلون بحرية، ويبتكرون شبكاتهم الخاصة، المتسمة بالمرونة والانتشار، والقادرة على إحداث تغيير جذري في الشرط الاجتماعي والسياسي، بعد أن كسروا احتكار النشر، والأطر المكانية والتقنية المحدودة للتواصل، وباتوا قادرين على ابتكار عدد لا محدود من التعبيرات السياسية والثقافية، التي لا يمكن رقابتها أو السيطرة عليها. وإذا كان تعميم الصحافة هو الوسيط التقني لثورات القرن التاسع عشر؛ وانتشار التسجيلات المصورة والمسموعة، عاملاً مساعداً في ثورات القرن العشرين (أشرطة الكاسيت في حالة الثورة الإيرانية مثلاً)، فإن وسائل التواصل الاجتماعي هي وسيط ثورات القرن الحادي والعشرين.
مدينة غوثام في “الكوميكس الأميركي”
بعض الفلاسفة المتفائلين بهذا التغيير تحدثوا عن تبدل جذري في نمط الذاتية، فلم يعد من الممكن إنتاج الذات أيديولوجياً عبر صياغة سلطات معينة لدلالات ومعانٍ ثابتة، يتم تلقينها للبشر، مثل القومية والنوع الجنسي وقيم العائلة والدين، بل سيخلق الناس بحرية تركيباتهم الخاصة، ويصبحون جمهوراً من التفردات غير القابلة للاختزال، التي تعمل معاً نتيجة تواصل غير مؤطر سلطوياً، وتتفلّت دوماً من كل تحديدات السلطة.
قد يلجأ الناس إلى الشبكات الهامشية، والإنترنت العميق والمظلم، والمبادرات التقنية الحرة، للهروب من هذا الشرط الخانق، ولكن التجربة أثبتت أن كل هذه الحلول يتم الهيمنة عليها في النهاية، واستيعابها في التيار الأساسي، أو تصبح مجالاً لمجموعات الجريمة المنظمة والإرهاب.
بعد تجارب متعددة، خاصة الانتخابات الأمريكية عام 2016، ظهر أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست «حرة» للغاية، ولا يمكن تشبيهها حتى بشرائط الكاسيت، التي كان يمكن لأي شخص أن يسجّل ما يشاء عليها في غرفة مغلقة، فهي متعلقة بخوارزميات شديدة التعقيد، تبتكرها شركات تتربّح مما يسمى «اقتصاد لفت الانتباه». لا يتداول البشر الرموز والأفكار والدلالات بحرية، بل يتم إثارة انتباههم عبر نوع من البرمجة العصبية والنفسية، ودفعهم إلى استقبال وإصدار العلامات، بعد وصلهم بشبكة هائلة، يزداد ربحها كلما أنتجت مزيداً من العلامات. يصبح المحتوى التواصلي بهذا المعنى فارغاً، فليس مهماً ما الذي يتداوله الناس، بل تكثيره ومضاعفته بلا نهاية، ولذلك تصير العلامات اللافتة للانتباه، أياً كان محتواها، المنتج المفضل على هذه الشبكة.
البشر بهذا المعنى ليسوا منتجين لمعانٍ وأفكار، بل «ماكينات سيميائية»، تُحفّز لإنتاج أكبر قدر ممكن من العلامات، حسب تعبير الفيلسوف الإيطالي موريتسيو لاتسراتو، ويزول لديهم أي فرق بين الخارج والداخل، فأفكارهم لا تنبع من إعادة صياغة داخلية للمؤثرات الاجتماعية والثقافية العامة، بل نتيجة ضغط خارجي من مئات المؤثرات و»التريندات»، التي تخترق إشعاراتها حياتهم اليومية في كل مكان. هذه «العبودية الآلية»، دفعت المفكرة الأمريكية جودي دين للتأكيد أن وسائل التواصل ليست حيزاً عاماً، ولا حتى بالمعنى الافتراضي، لأنها لا تحوي لغات مشتركة أو فاعلين اجتماعيين أو خطابات موجّهة، وليست أكثر من مجال لتداول علامات فارغة، ضمن حيز من الامتيازات الخاصة، مملوك لهذه الشركة العملاقة أو تلك. ويشبه، رغم كل تطوره، الإقطاعيات القروسطية، التي كانت تُباع وتُشترى مع الأنفس التي تعمل فيها. بهذا المعنى فإن إيلون ماسك لم يستول على «ميدان رقمي عام»، بل اشترى ماكينة هائلة، بالأنفس الموصولة بها، أي نحن، مستخدمي تويتر وغيره من وسائل التواصل.
تجارة الذوات
ولكن كيف تخلّى أنصار أيديولوجيا «الووك» و«العدالة الاجتماعية» (على النمط الأمريكي) بهذه السهولة عن تويتر لخصمهم المُتهم بالشعبوية؟ قد يكون الجواب في زوال الفارق بين الأيديولوجي والاقتصادي، في عصر تسليع المنتجات اللامادية من علامات ورموز: بما أن محتوى التواصل فارغ على وسائل التواصل الاجتماعي، والمهم هو إنتاجه لبيانات وعلامات قابلة للتسويق، فإن نمط الذاتية الذي خلقه قابل للبيع بالتأكيد، أي الذوات الهشة منتزعة التوطين من أي سياق اجتماعي صلب، الغارقة بالاستياء والشعور بالتعرّض للأذى والعدوان، والمستغرقة في تريندات لا تنتهي من اللغط. لا أحد يناضل كثيراً للاحتفاظ بأيديولوجيا ذات محتوى فارغ، ومهما كانت أيديولوجيا «الووك» مفيدة للحزب الديمقراطي الأمريكي، فهي في النهاية ذات قيمة سوقية يمكن تداولها والتنازل عنها، إن حققت ثمنا مجزياً، فليتعامل ماسك مع ملكيته الجديدة كما يشاء، وسيتأقلم الديمقراطيون مع الشرط المستجد.
ليس من الواضح بعد إن كان تويتر سيصبح مجالاً مفتوحاً لـ«التفوق الأبيض»، كما يحذّر بعض المرتاعين من استيلاء ماسك عليه، ولكنه بالتأكيد سيصبح أكثر لفتاً للانتباه بما يحويه من علامات وتعبيرات متحررة أكثر من الرقابة، ومثيرة للغط أكبر، بما يتناسب مع الشخصية الإشكالية لماسك نفسه، الذي حقق شهرته أصلاً عبر كثير من اللغظ. ربما يكون لهذا نتائجه على نمط الذاتية المعاصر، ولكن من المستبعد أن يؤدي لتغيير جذري، فالذوات/الماكينات الموصولة على الشبكة العملاقة ستبقى هشة وغير قادرة على إنتاج المعنى، و «ضحية» أبدية لكل أشكال العدوان.
غوثام الجديدة
بالعودة إلى الكوميكس الأمريكي يبدو العالم اليوم أشبه بديستوبيا «غوثام»، المدينة السوداوية الفاسدة، التي باتت شهيرة في الثقافة الشعبية، والتي يسيطر عليها أثرياء مخبولون ومجرمون متوحشون، ولا أمل فيها إلا «الرجل الوطواط» (ثري آخر غريب الأطوار) الذي يحاول إصلاح المفاسد اللانهائية لمدينته.
أشرار غوثام الجديدة هذه ليسوا فقط أثرياء اشتروا المدينة مع أنفسها، مثل إيلون ماسك، بل أيضاً سلطات قمعية تعمل على الانفصال عن إقطاعية التواصل الاجتماعي المعولمة، لإنشاء وسائل تواصل محلية، تمزج بين خوارزميات اقتصاد لفت الانتباه؛ والتحكم الاستبدادي والرقابة التقليدية. شبكات التواصل الصينية والروسية خير مثال عن ذلك.
قد يلجأ الناس إلى الشبكات الهامشية، والإنترنت العميق والمظلم، والمبادرات التقنية الحرة، للهروب من هذا الشرط الخانق، ولكن التجربة أثبتت أن كل هذه الحلول يتم الهيمنة عليها في النهاية، واستيعابها في التيار الأساسي، أو تصبح مجالاً لمجموعات الجريمة المنظمة والإرهاب. لا يوجد بطل خارق في الأفق يمنح الأمل في هذا الشرط الديستوبي، وربما الأجدى انتظار تغيير قد يأتي من خارج الشبكة وخوارزمياتها.