” الخارج، بْرّا، غُورْ إيرُومِينْ، عْنْدْ الْكوْر…”
كلُّها ألقابُ تُطلقُ على الضّفة الأخرى.

مِنهم مَنْ رَحلَ إلى “الخارجِ” وحَقّقَ مجداً تَليداً ومِنهم من ذهب ليعود كلّ صَيفٍ، ليس بخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وإنّما بأطنانٍ منَ العجرفَةٍ والعُنجُهِيَّة والأكَاذيب.
صيفُ العام المُنْصَرِم، لم يزرنا” الباريسيونَ”. كلُّ صيف، تنتعشُ الحركةُ الاقتصاديةُ في جلّ رُبوعِ البلاد بِقُدوم المُهاجرينَ المقيمينَ بالخارج، لا سيّماَ بالدِّيّار الأُورُبية. يَلتَمُّ الشملُ وَ يَجتمعُ الأهلُ والأحبابُ والأصحابُ وَ
يعُمُّ الفرحُ البُيوتَ وَ يطُولُ العِناقُ وتُذْرَفُ الدُّموعُ
قُدُومُ المهاجرينَ المقيمينَ بالخارج يُلازمهُ الفرحُ والحُبورُ. وهذاَ دليلٌ على ما لِمَجِيئِهِم مِن مَحَاسِنَ، أمّا مَساوئُ فئةٍ منهم، فقد سَلِمْنَا منها صيف هذا العام.
تنادِي الأمُّ ابنها كريم وتأمُره بأنْ لاَ يركضَ لأنه ليس في باريس، وهنا قد يَسقط ويَتهشّم رأسُه ، وبمَا أننا لَسْنا في ” باريس” ولا ” مونبوليي” ولا تولوز ” ولا ” نيس”، فخير ما سيُعالَجُ به ضَمّادةٌ حقيرةٌ مدهونة بقليل من ” البتادين” تُوضَعُ على جُرحه، يَركُلُ من شدّةِ الألم، ويصرخُ بأنّه يريد أن يرجع أدراجهُ إلى فرنسا “تودوسويت
تُوَزّعُ آمرأةٌ بعضَ الهدَايا التي حملتها معها. تأُخذ قنينةَ العطرِ بين يديها وتقول بصوت عالٍ لإبنةٍ من عائلتها أو جيرانِها إنّهُ اشترتهُ من أفْخرِ محلاّتِ العُطُورِ في شارع Montaigne أو في محلاّت Saint Honoré وهو عطرٌ أصلي لا مثيل له.
وبما أنّ كلّ منتوج مهما كان وضيعا يكون مرفوقا بوُريْقة مكتوبٌ عليها ثَمنهُ، فإنّ كلّ شيء بادٍ للعَيانِ، وتنتهي المسرحية هنا. لكن لا بأس، بضاعة الضّفةُ الأخرى لها حَلاَوتُها الخاصّة.
يقول أنس وكريم وسكينة و نسرين بصوت متلعثم إنهم في فرنسا، حصلوا على المراكز الأولى في جامعة السوربون و Haute Alsace و ” بوردو” و Blaise Pascal و Auvergne. مغاربة كثر أكفّاء نجحوا في فعل هذا، لكن ليسَ هؤلاء بالضبط. هؤلاء فقط يعشقون الكلام المدعوم بعجرفة مثقوبة

يقولون لهم، أيْ لأبناء عائلتهم، إنّ فرنسا وهولندا لا تصلحان للعيش، وإنه حتى وإن كنت كفئاً فلن تستطيع ارتقاءَ مناصبَ عليَا بل ستبقَى مجرّد عاملٍ حقيرٍ وفقط، وهذا بسبب العنصرية.
يقولون هذا لأنهم خَائفون من أن يَعْبُرَ هؤلاء البؤساءُ البحورَ ويصنعوا لأنفسهم مَجداً لم يَقْدروا هم على بُلوغه بسببِ أنهزامِيّتِهم واتكاليّتِهم، ليبدأوا في نسج أكاذيب، من فَرْطِ تكرارها على أنفسهم وعلى غيرهم، انتهى بهم المطافُ بتصديقها
إنهم وببساطة لا يريدون أن يُصَارحوا أنفسَهم بالحقيقة، لأنّهم يُحِبّونَ المَظاهرَ المزيفةَ ولأنهم يُخادِعُونَ أنفُسَهم وربّما لا يعلمون أننا نعيش عصر الإنترنت وأن كل شيء مكشوفٌ ومعلومٌ.
يقول أحدهم: نحن في فرنسا، نجني نقوذا كثيرة، ونُحِبّ أنْ نأتيَّ إلى المغرب لنعيشَ حياةَ البذخ والتّرف في كازابلانكا ومراكش وطنجة، وَ يُنهي كلاَمهُ بصوت عالٍ: bah oui mon frère !
صَاحبُنا هذا يُعلّق على عُنقه حقيبةً مُربعةَ الشّكل، داخلها توجد خمسين أورو وبعض القِطعِ النقديّة المهترئة، يُوزّعها على الأطفال الصّغار، تَغمرهم فرحةُ زائفةٌ ويَركضونَ صوبَ البقّالِ ليرميَّ تلك القطعَ على وجوههم، ليَعُودُوا أدْراجهُم والخَيبةُ تَعلُو مُحَيّاهم.
بعيدا عن كريم وعائلته وبعيداً عن سيارتهم ذات “البورتبكاج” وقنينات Shampoing والصابون وفرشات الأسنان وعُلبِ البسكويت الرّخيصة، ما يزال المهاجرون الحقيقيون يَبعثُون الأمل في النفوس ويُحفّزون الشّبابَ هنا على بَذْل مجهودٍ أكبرَ في التّحصيل العلميّ وفي الرياضة قصد نيل العلى هناك، وراءَ المتوسط. إنّهم مهاجرونَ مكافحونَ بدأوا منَ الصِّفر وحقّقوا أهدافاً كُبرَى؛ مِنهم من ارْتَقى سلّمَ الوظائفِ العُلياَ بكلِ جدارةٍ واستِحقاقٍ ومنهم من طوّرَ مشاريعَ تجاريّة مُهمّة وفّرَت مَنصبَ شُغلٍ للفرنْسيِّ والمغربيِّ والجزائريِّ.
المهاجرون المقيمون بالخارج، لنَا فيهم أَقاربُ نفْتَخِرُ بهم؛ واحد منهم قادرٌ على تَحفيز العَشرات من الشبابِ وَ حَثّهِم على المُغامرةِ الحقيقيَّةِ التِي يكون شِعارهُا : تحقيق الذات وصِناعةُ المجدِ؛ البعث من جديد والخروج من رَحِم المُعَاناة كما تنبعَثُ العَنقاءُ من رَمادهَا