دأبَت الحُكوماتُ المتعاقبةُ على تصريف فعل ” أصلح” في كل الأزمنة؛ في الماضي والحاضر والمستقبل.
أَصلَحنا، نُصْلح، سنصلِحُ. ماض لم يرَ منه المواطنُ المقهور الشيء الكثير، حاضر يعيشه وفي القلب لظىً وفي النفس كلومٌ، ومستقبلٌ لا يرى فيه إلاّ حُروفهُ السِّتّة المبنية للمجهول: ” ستُحتَقر”.
إن لِلإصلاحِ وجهةٌ واحدة ووجهٌ واحدٌ وما عليكم سوى إتيان البيوتِ من أبوابها أيها المسؤولون.
أنْ يقال للمواطن في كلّ آنٍ وحينٍ إنّ هناكَ إصلاحاتٌ يُقَامُ بها إنّما هو ضرب من العبث لا غير.
كيف تُريدُون من مُواطنٍ يعيش تحت وطأة الأجور الهزيلة والأسعار الحارقة ويخاف أن يمرض لأنه يعلم أن لا مستشفى في بلاده وحينمَا يحتجّ يُقمَع – كيف- تريدون منه أن يثق في هذه الكلمة العجيبة ؟
يا من تريدون الإصلاح، أقبلُوا عليه اليومَ قبل غدٍ إن كُنتم حقّا صادقين، واخرجُوا للشارع لِتَرَوْا بأمِّ أعْيُنكم أنَّ الكَيْل قد طفحَ والشرّ قد حَزبَ والأذى قد عَمّ وواقع الحال مُحزنٌ.
أينما تُولُّوا وُجُوهكم لن تسمعوا إلاّ الشَكَاوى والصراخ والبكاء ولن ترَوْا إلّا مشاهدَ تراجيدية مبكيّة تُدمي القلوبَ أكثر من مشاهد الحرب والموت والفراق التي دقّق في وصفها الشاعرُ اليوناني “هوميروس” في” الإلياذة’. فهل منكم من يسمع فُينصت ويجيب؟
المواطن مَلّ من سماع الخِطابات الرّنّانة، لم يعد البتّة يثق في “الشفوي”. يريد منكِ أيّتهاَ الحكومة أن تكوني واقعيّة أكثر ممّا كان عليه “غوستاف فلوبير” في نقل كل صغيرة وكبيرة عن بطلة روايته “مدام بوفاري”.
انزلُوا أيّها الوزراء والبرلمانيّون ، يا رؤساء الجهات ، انزلوا من بُرجكم العَاجِي واخرجوا من ” فيلاتكم” لتُعَاينوا أوضاعَ المواطنِ وتروا إلى أيّ حدّ هو راضٍ عن قراراتكم التي تَتّفقون عليها وأنتم جالسون على كراسيكم الفخمة النّعمة التي يدغدغكم قُطنها. تُمْضُون سَحَابَة نهاركم عليها وأَنتُم تُنَاقشون القرارات وتُزيّنُونها بإمضَاءَاتكم.
” يذبحون النعم ويرغون الزاد ويعاقرون ابنةَ العنب ولا يُبالونَ أن يَهلكَ الزرعُ والضرعُ، ما داموا ينامون وبطونهم مَلْأَى ويَبيتُ غَيرهُم على الطّوى”.
عبارة نطق بها ” تليماخوس بن أوديسيوس” في ملحمة “الأوديسة”، أجدها تُعبّر بعمقٍ عن حال بلادنا اليوم، هم بخير وعلى خير ويظنون أنّ حالَ المواطن المسكين المغلوب على أمره بخير.
يسكنون المنازلَ الفخمة ويسوقون ما جَدّ في “موديلات” السيارات ويَتّكئون على الأرائك النّعمة والمواطن ليس من نصيبه إلا” الحريرة” إن وَجَدها.
أبناؤهم لا يقطعون المسافات الطّوال من أجل بلوغ حجرة مدرسية مشقّقة السقفِ متصدعة الجدران ولا يركبون الحافلات ولا سيّارات الأجرة. عملهم لا يقتضي الالتزام بأي توقيت، هم أحرار فيما يفعلون، إنهم يخدمون مصلحتنا.
إذا كان المواطنون يصرخون من أجل مطالبَ واقعية ومشروعة فلأنهم يعيشون أوضاعا مأساوية يريدون التخلصّ من براثينها “. أوضاعٌ مزرية نَمَت بسبب إهمالكم وسوء تدبيركم. قُومُوا بواجبكم على أحسن وجه وأَنقذُوا هذه البلاد وأعْطُوا للمواطن المسكين أبسطَ حُقوقه وكفاكم ظلما وتنكيلا وتسويفا.
أمّنوا لهذا المواطن المسكين حياةً كريمة ولن تضطَرّوا قطّ إلى تكميم فاه أو قمعهِ بالعصيٍّ وسط شوارع الرّباط.
لن تسمعوا بين المواطنين من يشتكي أو يلقي عليكم اللّومَ، لن تَسمَعوا حِينَها إلّا قيلاً سلاماً سلاماً.
أمِّنُوا لهُ حياةً تَليقُ بإنسانيّته ليُحسَّ أنَّه مواطنٌ كرامتُهُ مَصُونَةٌ و لُقمةُ عَيشهِ مَحفوظةٌ.
إِذّاك، كل شيء سيكون جميلا وسَيَعُمُّ السّلمُ الحقيقيّ الذي تحدث عنه” سبينوزا”؛ السِّلم الذي يَعمّ حينما تُقامُ العدالةُ.
في انتظار أن تقام هذه العدالة، اعلَمُوا رحمكم الله أنّ الإصلاح لا يأتي من تلقاء نفسه إنما يُؤتَى به وأنْ لا سبيل إلى ديمقراطية حقيقية دون مشاركة المواطن في القرارات التي تهمّهُ لأنّه هو في الأخير من يعاني من تَبِعَات القرارِ.
أمّا فيما يَخصّ الإصلاح، فلن أجدَ أَفضَل مَا أعَرِّفُه به ممّا قاله محمد عبده: ” الإصلاح يبدأ من أدنى إلى أعلى”.
إنّكم تَعلمونَ ونعلمُ أنّ مُرادفَ الإصلاح إنّما هو الإصلاحُ. اخرُجُوا للشارع كي تروا كلّ شيء كما هو في صورته الحقيقية .
اخرجوا كلّ يوم، وحينما سيكفُّ المواطنُ عن الصراخ، اعلموا حينئذٍ أنكم بدأتم فعلا الإصلاح، وحينما سَترونهُ مبتسما اعلموا أنّكم في المسار الصحيح.
إِذّاك إن قلتم” إصلاح” أو إصلاحات” فالمواطن كلّه أذنٌ صاغية لأنّه يرى في نَفسه ومُحيطه ذلك الإصلاحَ بشكل واقعيّ وملموسٍ، أمّا الآن ولنكون واقعيين، لا تَتجرّأوا على نطق هذه الكلمة العظيمة الجليلة.