محتات الرقاص ، مدير نشر يوميتي البيان و بيان اليوم، المشكل ليس في الخط التحريري للصحف الحزبية، الذي أعتبره خطا سياسيا واضحا و محترما لأخلاقيات الصحافة و لكن الإشكال يكمن في بعض الصحف الخاصة التي توجهها لوبييات اقتصادية أو سياسية أو أوساط سلطوية و أخرى تنتفع من سلوكات الإبتزاز.
- كممارس في الصحافة الحزبية، ما رأيك وضعية الصحف الناطقة باسم الهيئات السياسية المغربية؟
بصراحة، أعتقد أن التحدي الذي يواجه اليوم صحافتنا الوطنية هو يشملها كلها، ولا ينحصر فقط في ما يسمى(الصحافة الحزبية)، وقد بات تحدي وجود، ولا يرتبط فقط بتحديات النمو والتطور والتأهيل، ولهذا يجب مقاربة الموضوع بشكل شمولي وموضوعي.
من جهة ثانية، هذه التي تسمونها اليوم صحافة حزبية هي نفسها تطورت على مر السنين، وشهدت تحولات وتبدلات لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ومقاربة حالها تبعا لذلك، وليس بأدوات قراءة تنتمي للقرن الماضي أو يجري استدعاؤها من واقع صحافة مماثلة في جغرافيات عربية أو أوروبية أخرى.
لم تعد هذه الصحف منشورات تنظيمية كما كانت من قبل، وربما عدد من المناقشين اليوم تفصلهم سنوات عديدة عن قراءة صحيفة من هذا المجال.
بالفعل لم يعد ممكنا لهذه الصحف أن تستمر كمنشورات لا تنطق إلا باسم الحزب الذي يصدرها، ولم يعد ممكنا أن يتم إعدادها اعتمادا على مناضلين متطوعين، ولم يعد التعاطي معها كما لو أنها فقط هيكلا تنظيميا ضمن باقي بنيات الحزب أو أنها تلخص بلاغ الحزب أو قيادته، ولكن اليوم صار ضروريا تدبير هذه الصحف كما يتم تدبير أي صحيفة أخرى ضمن قواعد المهنة وأخلاقياتها، وأيضا اعتمادا على مهنيين، وكذلك وفقا لمقتضيات تدبير مقاولاتي عصري، وهذا التحول شهدته فعلا عديد صحف من هذا النوع، إما بحكم وعيها الذاتي بذلك أو تطبيقا للقوانين المعمول بها في بلادنا.
كل هذا لا يعني أن التحول جرى ويجري بشكل انسيابي سلس أو من دون مشاكل، ولكن هو تحول حتمي ويجب مواصلته، وذلك لكي تتطور هذه الصحف، التي لا يجب أن ننسى أنها مدارس حقيقية في المهنة وفي الوطنية وفي السياسة والثقافة وغير ذلك، وتصير صحفا سياسية مهنية حقيقية لها خطها التحريري المميز لها، ولكن تعيشه ضمن قواعد مهنية واضحة.

عندما أصر هنا على التعاطي الشمولي مع الموضوع، فلأن سؤالا مركزيا يحضرنا من واقعنا المهني الوطني، ويتعلق أيضا بما يسمى( الصحف الخاصة)، ذلك أن تجارب وممارسات عديدة على هذا المستوى، ونعرفها كلنا، كانت نفسها تلتزم وتتقيد بخطوط حمراء تفرضها مصالح ووجهات نظر لوبيات اقتصادية أو توجهات أوساط سلطوية أو سياسية، وهذا يجعلنا أمام(حزبية) مستجدة، ومن ثم، فعلى الأقل ما تسمونه (صحفا حزبية) تلتزم بخط سياسي وتحريري وطني واضح، وتمتلك المصداقية للجهر به والتعبير عنه وبلورته ضمن مضامينها وأفقها العام، وهذا عكس ممارسات متلونة وحربائية تسبح في اللاوعي وربما في سلوكات الابتزاز.
ترتيبا على كل هذا، التحدي الذي يواجهنا اليوم كمجتمع هو تراجع مخيف في القراءة، سواء بالنسبة للصحف والمجلات أو للكتب على اختلاف مضامينها، ومن ثم ضعف إقبال شعبنا وشبابنا ونخبنا على القراءة، بما في ذلك عبر الدعامات الالكترونية، حيث الانشغال أكثر بالمحادثات البسيطة ومواقع التواصل الاجتماعي وليس بالقراءة الرصينة والحقيقية.
هذا هو التحدي الجوهري، وهو يسائل منظومتنا التعليمية وممارستنا الإعلامية وحياتنا الثقافية ومختلف بنيات ومؤسسات التنشئة عندنا، ويفرض أن نفتح العيون والاهتمام على الوعي العام لشبابنا ومستويات تاطير شعبنا وعلاقته بالشأن العام.
نعرف أن تحولات تكنولوجية وقيمية يشهدها العالم كله، ومن المؤكد أنها تؤثر أيضا في شعبنا وشبابنا، ولكن نعرف كذلك أن معضلات أخرى محلية زادت من تفاقم حدة الوضع عندنا، وواقع الصحف والإقبال على اقتنائها وقراءتها يجسد ذلك.
لكل هذا نحن اليوم أمام أسئلة وجودية تستدعي حوارا عميقا واستراتيجيا بمشاركة المهنيين والخبراء والسلطات العمومية لصياغة جواب للمستقبل، وهذا التفكير يشمل القطاع برمته من دون أي تركيز جزئي أو ثانوي، ويجب أن يتسع هذا التفكير المجتمعي ليكون بحجم الوطن ويستحضر المطروح على بلادنا اليوم ومستقبلا من تحديات وطنية وتنموية وإستراتيجية، وتبعا لذلك صحافة الغد التي تستحقها بلادنا.
- هل مازالت الصحف الحزبية تعتمد في مبيعاتها على النموذج الإقتصادي التقليدي؟
مبيعات الصحف، يجب قراءة مؤشراتها ضمن التحديات المشار إليها جوابا على السؤال الأول، وأيضا مقاربتها باعتبارها مدخلا واحدا ضمن مداخل أخرى لتمويل الصحف وتقييم رواجها وانتشارها، والى جانب ذلك يجب طرح واقع توزيع الصحف في بلادنا ومنظومة بيعها العمومي، وواقع الإشهار والإعلانات واختلالات ذلك، ومنظومة الدعم العمومي وقصورها…
لقد بقي المهنيون المغاربة طيلة عقود يتحدثون عن رقم مائتي ألف نسخة يوميا تبيعها كل العناوين الصحفية الوطنية مجتمعة، وهو رقم جد هزيل بالنظر لمستوى شعبنا وبلادنا، ولكن في السنوات الأخيرة حتى هذا الرقم الهزيل نفسه بدأ في التراجع تباعا، ومع حلول الجائحة الحالية وتعليق طباعة الصحف من لدن الحكومة لفترة محددة، بلغت المبيعات اليوم ما لا يصل حتى إلى ثلاثين ألف نسخة يوميا لكافة الصحف الوطنية اليومية والأسبوعية والدورية بمختلف اللغات، ودراسات وتقارير المجلس الوطني للصحافة تقدم تفاصيل كثيرة ومروعة بهذا الخصوص.
تبعا لما سبق، هل يحق لأحد اليوم القول بأن هذه صحيفة كبرى وأخرى ليست كذلك؟ وهل وحدها الصحف الحزبية من تراجعت مبيعاتها؟
هذا يمثل اليوم أبرز تجليات التحدي الوجودي الذي أشرت إليه من قبل، والمسؤولية تتجاوز الجسم المهني، أو أرباب المقاولات الصحفية أو المنظمات المهنية، وإنما الأمر اليوم يعتبر مسؤولية وطنية ومجتمعية لا بد أن تعي بها الدولة وتباشر عملا كبيرا مع ممثلي المهنيين للنهوض بالقطاع وتأهيله والعناية بموارده البشرية وتطوير التكوين فيه وإشعاع المهنية والتقيد بأخلاقياتها، وتمكين بلادنا من مؤسسات إعلامية ذات مصداقية وإشعاع، وأيضا تمتلك المصداقية التحريرية والسياسية والوطنية، وتتوفر لها شروط الاستقرار المادي والاقتصادي.
- هل يمكن أن تراهن الهيئات السياسية المغربية على الصحف الناطقة باسمها؟
أنا أتحدث عن الصحف باعتبارها بنيات مهنية ومقاولات، أما الأحزاب ففي نظري بالإمكان أن تمارس عملها السياسي والتعبوي والتأطيري من دون أن تكون هي نفسها ممتلكة لصحفها أو إعلامها الخاص، ولكن هذا مشروط بتطور الإعلام العمومي ليكون إعلاما منفتحا وتعدديا وممتلكا لممارسة مهنية عصرية، ويقدم خدمة عمومية حقيقية تعكس عرضا متنوعا وتجسد التعددية السياسية والمجتمعية، ويستطيع الجمهور عبرها تلقي ما يشبع حاجياته الإعلامية والإخبارية والتكوينية، وأيضا أن تتطور في بلادنا صحافة مكتوبة والكترونية مهنية وتعددية وحاضنة لكل تيارات الرأي والفكر في المجتمع، وكما تعلمون هذا ليس حالنا اليوم، وليتحقق ذلك يجب أن تتوفر الإرادة السياسية اللازمة، وأن يتم رصد الموارد والإمكانات والاستثمارات والتشريعات الضرورية لصناعة إعلامية حقيقية في البلاد، وحينها يمكن لعديد أشياء أن تتغير في مشهدنا الإعلامي الوطني.