قد يعتقد لوهلة متتبع “فضيحة بيغاسوس”، وما صاحبها من حديث عن أكبر وأخطر عملية تجسس في التاريخ، أن الإنسان كان ينعم بحرية وخصوصية فردية شبه مطلقة، ليستيقظ الآن على جريمة تجسّس أنظمة استبدادية على الصحافيين والحقوقيين والسياسيين وآلاف المواطنين في العالم. لكن المعلومات المتاحة تُظهر أن هذه الزوبعة الإعلامية تُروّج سلسلة افتراضات ومغالطات ومبالغات، وأن التحقيق يميل أكثر إلى المناصرة الحقوقية التي لا تخلو من أجنداتٍ سياسية، ولا يحترم مقوّمات الصحافة الاستقصائية.
“مشروع بيغاسوس”، هو اسم التحقيق الذي نشره أخيرا ائتلاف إعلامي دولي يضم أكثر من 80 صحافيًا يمثلون 17 جهة إعلامية في عشر دول جلّها غربية، أبرزها صحيفة الغارديان البريطانية، وواشنطن بوست الأميركية، ولوموند الفرنسية. وتتزعم الائتلاف منظمة إعلامية فرنسية، فوربيدن ستوريز (قصص محرّمة)، صاحبة الفكرة، ومنظمة العفو الدولية (أمنستي إنترناشيونال). ويزعم المشروع أنه حقّق في عملية تنصّت واسعة النطاق، تم فيها اختراق، أو اتضحت نيّة اختراق كم هائل من الهواتف من تطبيق بيغاسوس، البرنامج الخبيث الذي طوّرته الشركة الإسرائيلية “أن أس أو”.
اعتمد التحقيق على قائمة بيانات مُسرّبة تضم 50 ألف رقم هاتف نقال من 45 دولة، ينسبها المحققون لشركة “أن أس أو غروب”، ويزعم إن عشر دول (أذربيجان، البحرين، كازاخستان، المكسيك، المغرب، رواندا، السعودية، المجر، الهند، الإمارات) قد أخضعت أرقام الهواتف تلك لمراقبة محتملة عبر برنامج بيغاسوس، في حين تنفي بعض هذه الدول ضلوعها في هذه العملية، كما تنفي الشركة وجود أية علاقة لها بهذه القائمة، وتقول إنها تبيع البرنامج للدول لأغراض أمنية، ولا تقوم هي بمهمة التجسّس لصالح الدول، أو تخزين بيانات المعلومات المحصّل عليها.
الزوبعة الإعلامية تُروّج افتراضات ومغالطات، والتحقيق في “فضيحة بيغاسوس” يميل أكثر إلى مناصرة حقوقية لا تخلو من أجنداتٍ سياسية، ولا يحترم مقوّمات الصحافة الاستقصائية
وبعد أن أنذرت كبرى الصحف بعملية تجسّس عالمية وأربكت الجميع، استدرك المحقّقون الوضع، ليوضحوا أنه ليس كل هاتف ظهر على هذه القائمة قد تم اختراقه، وإنما يُحتمل أنه كان مستهدفا. وأقرّوا أيضا بأنه يستحيل الحسم في هذا الاتهام ما لم تخضع الهواتف المستهدفة لفحص تقني. وقامت المؤسسة الألمانية “سيكيورتي لاب”، التابعة لمنظمة العدل الدولية، بفحص تقني لـ 67 هاتفا نقالا، وخلُصت إلى تعرّض 23 هاتفا لاختراق ناجح، إضافة إلى 14 هاتفا ظهرت عليها علامات محاولة الاختراق. التحقّق من اختراق ومحاولة اختراق 37 هاتفا من أصل 50 ألفا، يعني أن المعلومات المتحقّق منها لا تتجاوز نسبة 0.07% ، ما ينزع عن هذا البحث صفة “الصحافة الاستقصائية” التي تقتضي عدم نشر المعلومات إلا بعد التأكّد من حقيقتها، ومن ترابطها واكتمالها، والحصول على الحد الأقصى من المعلومات المحصّلة.
اللافت أيضا تلك المفارقة الهائلة بين التشهير بعشر دول يُزعم أنه تم التجسّس لصالحها، والتستر على الدول التي سهّلت عملية التجسّس على الهواتف الـ 37. من أهم المعلومات التي توصل إليها التحقيق، من دون ترويجها بالشكل اللائق، أن هجوم “بيغاسوس” انطلق من “خوادم اسم النطاق” (DNS Servers)، التي توجد في مراكز بياناتٍ تستضيفها هذه الدول الـ 12 المُرتّبة حسب عدد الخوادم: ألمانيا ( 228 خادما)، بريطانيا (79)، سويسرا (36)، فرنسا (35)، أميركا (28)، فنلندا (9)، هولندا (5)، كندا (4)، أوكرانيا (4)، سنغافورة (3)، الهند (3)، النمسا (3). وتتوفر كل من اليابان وبلغاريا وليتوانيا والبحرين على خادم واحد. وتؤكد هذه اللائحة ما صرّحت به شركة “أن أس أو” لوكالة أنباء آسيا الدولية، من أن الديمقراطيات الغربية تمثل معظم زبنائها.
هذه إحدى أهم القصص المحرّمة التي كان على هذا المشروع الإعلامي – الحقوقي أن يتحرّى بشأنها، ويُخضع مراكز البيانات هاته لتحقيقٍ صارم، ويكشف عن أنشطة تجسّس الدول الغربية و”ضحاياه” أيضا، ويواجه أرباب شركات التجسّس في الديمقراطيات الغربية التي يدين قادتها تجسّسا محتملا تحتضنه مراكز بيانات شركاتهم، ويسهله عملاؤهم. وفي السياق نفسه، لم يوضح المحققون للجمهور الدولي أن “أن أس أو” شركة أوروبية بقدر ما هي إسرائيلية، فمعظم أسهمها تمتلكها نوفالبينا كابيتال (Novalpina Capital)، الشركة الأوروبية التي تتخذ من لندن مقرّا لها.
إنها الخطوط الحمراء، ومصالح ملاك وسائل الإعلام، والمستثمرين وحَمَلة الأسهم، التي جعلت ائتلاف الإعلام الدولي يغضّ الطرف عن الدور الأوروبي في أنشطة التجسّس التي تعرف ازدهارا تجاريا في القارة العجوز. اكتفى الائتلاف بتصوير “بيغاسوس” أنه السلاح الإلكتروني المفضل للديكتاتوريات، ولم يعترف بأنه، كباقي الأسلحة، يصنّعها الغرب الديمقراطي ويغتني بتجارتها ويؤدّي مواطنو دول الجنوب ثمنها.
لم يربط تحقيق “أمنستي” وشركائها بين فضيحة شركة “أن أس أو” وفضائح شركات التجسّس الأوروبية الأخرى
الجبهة الإعلامية التي تهاجم بشراسة المغرب أو المكسيك اليوم، دفاعا عن حرية الصحافة وحق الخصوصية الفردية، لم تُقم القِيامة لألمانيا والدنمارك والنرويج وبلجيكا والنمسا، حين اعتمدوا قوانين مكنّت مسؤولي الهجرة في هذه الدول من استخراج البيانات من الهواتف الذكية لطالبي اللجوء، واستخدامها قانونيا مبرّرا في ترحيلهم. كذلك، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تحذّر اليوم من وقوع برامج التنصّت في “الأيدي الخطأ” مثل المغرب، لم تنزعج حين وضعت شركة فينفيشر الألمانية برنامج تجسّسها فينسباي (FinSpy) بين أيدي حكومات البحرين وتركيا والإمارات وحكومات سلطوية، وتسبّب ذلك في سجن مئات النشطاء الحقوقيين والمعارضين العرب والمسلمين وتعذيبهم. ولولا ضغوط منظمات حقوقية، لما فتح القضاء الألماني قبل عامين تحقيقا في ممارسات هذه الشركة التي لا تقلّ خطورة عن “أن أس أو” الأورو – إسرائيلية.
أما الجارة الفرنسية، فبعد تسعة أعوام من المماطلة، وجّهت محكمة باريسية في مطلع 2021 تهمة لشركة برامج التجسّس الفرنسية “Amesy”، بالتواطؤ في أعمال التعذيب لبيعها برامج التجسّس إلى نظام الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، ما بين 2007 و2011. ويستغرب المحامي باتريك بودوان، الذي يدافع عن مدّعين مدنيين في هذا الملف، لتأخر القضاء الفرنسي في النظر بجدّية في هذه القضية، ويقول إن الدفاع يتوفر على أدلة لا تترك مجالا للشك في أن معدّات التجسّس الفرنسية قد سُلمت بدراية لنظام القذافي، واستعملت لسجن معارضين ليبيين وتعذيبهم.
لم يربط تحقيق “أمنستي” وشركائها بين فضيحة شركة “أن أس أو” وفضائح شركات التجسّس الأوروبية الأخرى، ربما لأن القصة التي تدور حولها قضية “بيغاسوس” هي الشرعية الديمقراطية للتجسّس، أي أن هذه البرامج الاستخباراتية نافعةٌ وضروريةٌ حين تصنّعها الدول العظمى، وتستخدمها في سرّية تامة ومن دون ضوابط دولية، وجد خطيرة عندما تباع لحكومات غير ديمقراطية قد تسيء استخدامها.
وضعت شركة فينفيشر الألمانية برنامج تجسّسها بين أيدي حكومات البحرين وتركيا والإمارات وتسبّب ذلك في سجن مئات النشطاء
لقد تجلى هذا الموقف التمييزي بوضوح من خلال الحملة الفرنسية على المغرب، إذ أطلقت وسائل الإعلام العنان لسب المغرب وشتمه، حكومة وشعبا. ووصل الأمر إلى أن تطلب قناة 24 الفرنسية من المغرب أن يقدم أدلةً على عدم استخدامه برنامج التجسّس، بدل التوجه إلى الأطراف التي اتهمت أجهزة مخابرات المغربية بالتجسّس على عشرة آلاف فرد في المغرب والجزائر وفرنسا وبلجيكا، من دون أن تقدّم دليلا وازنا على ذلك. هكذا تنقلب الآية، ويلقي الإعلام الفرنسي عبء الإثبات على المتّهَم بدل جهة الاتهام.
في مقال نشره الموقع الإخباري ميديابارت، والذي يعتبر نفسه “سلطة إعلامية مضادة” في فرنسا، يلخّص الصحافي اليساري، برونو بانبان، الاستعلاء الكولونيالي العنصري الذي يطفو إلى السطح بين فينة وأخرى، ويتم تغليفه بحريّة التعبير: “أن يتجسس عليك المغرب، بصراحة إنه لعار مطلق”… يمكن أن تقبل، ولو على مضض، أن تتجسّس عليك روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة، ولكن أن تراقبك بمَكْر دولة مغاربية صغيرة جدًا، فيا للصّدمة! وينبغي التذكير بأنه بلد مسلم، يحكمه زعيم سلالة العلويين، مثل عائلة الأسد التي تحكم سورية منذ 1970! إذا واصلنا على هذا النحو، قريبا ستتجسّس علينا غانا أو توغو (…). أن يستخدم بلد مسلم برامج التجسّس الإسرائيلية ضد جمهوريتنا الكاثوليكية العلمانية الجميلة، سادس أكبر اقتصاد في العالم، لا أقصد التهويل، لكن تبدو وكأنها نهاية العالم”.
من مزايا “فضيحة بيغاسوس” أنها فضحت الإعلام الغربي وأسقطت ما تبقى من أوهام موضوعيته واستقلاله وسعيه وراء الحقيقة.