الحافلةُ تسير صَوبَ مدينة كازبلانكا… الرّكابُ، جلّهم استسلموا لنوم ظاهرهُ ليس مريحا، لكن الهُمًوم الثّقال تجثِم على الصّدور فتُتعِبُهَا، فتصبحُ أكبر أمانِي الإنسانِ لحظةً ينال فيها قِسطاً من الرّاحة ولو على جلمودِ صَخرٍ.
سائقُ الحافلةِ يُنصت لبرنامجٍ على الإذاعة. صوت مبحوحٌ يقول في الرّاديو إنّ هذه التساقطات المطريّة هي خيرٌ كثير ونفع عظيم. هي فعلا كذلك، يقول صاحبُنا مُحدّثاً نَفسَه ووجهُه يلامسُ زجاج النافذة البارد
عندما تكون تحت فراشك السّاخن ليلا في منزل لا تسمع فيه رياح الشتاء الجائشة التي تندبُ كالثكلى، تحسُ بقشعريرة لطيفة تداعب جسدك الرطب الناعم….
بيد أنها حقيقة شبح مخيف يتربصُ بمتشرد يفترش الأرضَ ويلتحفُ السماءَ أو بأُسْرةٍ تَسكنُ حيّا صفيحيّاً. هم لا يستمتعون بتلك المشاعر السوريالية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تجد فِراشا دافئا بل ساخنا، قُبالتَه نافذةٌ كبيرة… قطرات المطر تنزلقُ في لُطفٍ عجيب على الزجاج كأنها تحاول أن لا تُقلقَ من ينظر إليها أو تزعجه.
هناك بعيدا في عالم الأشباح، لا صوت يعلو فوق صوتِ الهزيم إذ يرتطمُ بغضبٍ على الصّفيح ارتطاماً يُجمّدُ الحليبَ في أثداء الأمّهاتِ ويُرعبُ الرّضّعَ ويُفزِعُ الأجِنّة في الأرحام… أجنّة لا تريد أن تخرج إلى ذلك العالم، لا تريد أن يأتي يومٌ فَيُقطع فيها الحَبلٌ السُّرّيُّ الذي يربطهم بعالمهم الغارق في الجمالِ والسّكون والدِّفءِ، لا تريد أن تخرج لأنها تعلم أن ذلك الصّوت لا شيء مقارنةً بما ينتظرها من ضَنك وشقاءِ…
مُساعد السّائق يصرخ مُناديّاً النائمِين عسى أنْ يستفيقوا: إنها كازابلانكا !
في قرارة أنفسهم، يتمَنون أن تسْتمرّ هذه الرحلة. الكلّ يتمنّى أن لا يسمعَ صوتَ مساعد السّائق الذي يصاحبه اشتعالُ أضواءٍ خَافتةٍ تخرجُ ببطءٍ شديدٍ من سقف مُهترئٍ لا لونَ له. هو حلم لن يتحقق. اه لو استمرت تلك العجلاتُ في الدوران ! آه لو استمر صوت الراديو …لاَ. سينزلون ها هنا، وسط مدينة بئيسةٍ في الأصل، وبُؤسُها وسَوادُها يشتدّان أكثر بعد منتصف الليل ، وما أدراك حينما يهطل المطر عليها. الأمر شبيه بقمامةٍ تعجّ بكلّ انواع الروائحِ النّتنة…
كازابلانكا ليلاً، مرحبا بكَ بين البُؤساء! بُؤساءٌ، لو مُكّنَ ل( فكتور هوكو) أن يعيش إلى الآن، لانْكبَّ على تأليف أجزاءٍ أخرى من روايته المشهورة ، هذا إن استطاع أن يتمكنَ من إكمالهَا، لأن ما سيراه لن يستطيع بطل روايته ( جونْ فلجَانْ- Jean Valjean ) نفسه تحمّلهُ… لأنّ ما سيراهُ يستوجبُ أن يضع حجراً على قلبه ليكتبه..