حفّارُ الآبار!
إلى هذا قادَنِي القَدَر..
توسّطَ لي صديقٌ من المُواظِبِين على مَكتَبةِ “الجامعِ الكبير”، لدى مسؤولٍ في “الأشغال العُمومية” بمدينة مكناس، فوجدَ لي عملاً لدى “حفّارِي الآبار” بقريةٍ بين مكناس وفاس..
وفي الغَد، في المَوعدِ المُحدّد، كنتُ راكبًا شاحنةً حدّدَها لي ذلكَ المَسؤول، فأوصَلَني إلى وَرشةٍ سيُحفَرَ فيها بئرٌ لفائدةِ السّاكنة..
والتقيتُ في الورشةِ شابّا من سنّي، اسمُهُ “حُوسَا”، وهو أيضًا من مَجانينِ “الخِزانةِ العامّة”.. فضَحِكنا كثيرا.. وسألني: “ستَكُون هذه تجربةً مُهمّة.. فهل أنتَ على استعدادٍ لحفرِ البئرِ الأوّل؟
أجبتُ: “لم يَسبِق أن حَفرتُ بئرًا.. وهذه المرة، منكُم نَستفيد”..
وانطلاقا من الآن، نحفِرُ بالمِعوَل..
وفي الورشةِ حوالي 10 أشخاص..
وهأنَذا من حُفّار هذا البئر، ثم ظهرَ مشرُوعُ بئرٍ آخَر، وهذا بجوارِ غابة، على الطريق بين “أكُورَاي والحاجَب”..
وبعد البئريْن قرّرتُ السفَرَ لاحِقًا إلى العاصِمة..
أكيدًا، سوف أذهبُ إلى الرباط..
– قيلِ كلامٌ للمُشرفِ على وَرشة البئر..
يُسمُّونه هُنا “الكَابْرَان”..
هو شديدُ المُتابعة بعَينيْه..
ويُلاحقُنا أنا وصديقي”حُوسَا”، خلالَ النهار، وفي الليلِ ونحنُ جميعًا نبِيتُ في “القِيطُون”..
وفي وقتٍ من أوقاتِ العمَل، سألَنِي: هل أنتُما هُنا للعمَل أم لقراءةِ الكُتُب؟
أجبتُه: للعملِ في وقت العَمل، وللقراءةِ خارجَ العمَل..
لم ترُقهُ الإجابة..
وردّ فورًا: “من الآن، ستتَناوَبان على الإتيانِِ بالماءِ الشَّرُوب من العَيْن”..
وسلّمَني إناءا، وأمرَني بالذهابِ فورًا إلى العَيْن.. إنها هُناك..
أخذتُ الإناء، واتّجهتُ صوبَ العَين..
ملأتُ الإناء.. وصرتُ أُوزّعُ الماء على عُمّالِ البئر..
وسمِعتُ بعضَ الحفّارِين يَتضاحَكُون ويقولون: الماءُ أحسَنُ من المِعوَل..
ولا مُواخذَةَ لِهؤلاء..
إنهُم لا يُدرِكُون مَعنَى القراءة..
– ونادَانِي “رئيسُ ورشةِ البئر”: “تَعالَ إلى هُنا”..
اقتَربتُ منه، ونَظَر إليّ بغضَب: “قُل بصراحة، هل أنتَ هُنا لكي تشتغل؟ أم لكي تتَجسّسَ علينا؟”..
لم أفهَم ما يقُولُ هذا “الكَابْرَان”..
ونادَى صديقي: “من أرسلَكُما إلى هُنا؟ ولماذا؟ هل أنتُما فعلاً من العُمّال؟ أنا لا أرى فيكُما إلاّ تلمِيذيْن.. أحسَنُ لكُما أن تَعُودَا للمَدرسَة”..
ثم سَكَت..
وفي اليوم التالي، حضَرَت سيارةٌ مَخزَنيّة، فيها شخصَان أنِيقَان..
“رئيسُ البئر” اختلَى بأحَدِهِما، وتكلّمَا مع بعضِهما، وهُما يُشيرانِ إليّ وإلى “حُوسَا”..
وعندَما هَمّا بالانصِراف، خاطَبَنا “الكَابْرَان” بصوتٍ يَسمعُه كلُّ العُمّال: “لم يَعُد لكُما مكانٌ هُنا.. وعندَما تَكبُران، وتُصبِحَانِ من العُمّال الذين يُمكنُ الاعتمادُ عليهم، مرحبًا! أمّا الآن، فأحسنُ أن تعُودَا إلى المَدرسة”..
ولا أحدَ منّا أجابَ “الكَابْرَان”..
ركِبنا بالكراسي الخلفية لسيارةِ “المَخزَن”، أنا و”حُوسَا”، وصِرنَا نتتَبّعُ السائقَ وهو يعُودُ بالسيارةِ من حيث أتَت..
وعندما وَصَلت إلى “حَمرِيّة”، وهو حيُّ الفرنسيّين، أخذَت السيارةُ الطريقَ إلى اتّجاهِ “الحاجَب”..
وبعدَ حوالي ساعتيْن، على أبعَدِ تقدير، كُنا قد تَجاوَزْنا “أكورَاي”، وها نحن نقتربُ من الغابَة..
وما هي إلا لحظات، حتى توقّفت السيارةُ عندَ بِئرٍ في طُور الحَفر، في بدايةِ الغابة..
خرجَ من “القِيطُون” شخصٌ مُسِنّ.. إنه “الكَابْرَان” الجديد..
وتحدّثَ إليه السائق: “سيَشتَغِلان في البئر”..
وتأمّلنا “الكَابْرَان”: “إنهُما أصغَرُ من حَفرِ البئر”..
وتَرَكَتنا السيارةُ هناك..
نبيتُ في “القِيطُون”..
وفي النهارِ نحفِرُ البئر..
وبعدَ حوالي أسبُوع، تكلّمَ “الكَابْرَان”: “هذا مكانٌ لا يُناسبُكُما.. وغدًا سيَأتي المسؤولُ عن الآبار، ويؤدّي لكُما المُستحَقّات”..
وهذا ما حَصَل..
سلّمَ لنا ما نستَحِقّ، ثمّ أخذَنا في السيارةِ إلى “مَكناس”..
– وداعًا للآبَار!
وقُلتُ في نفسِي: “هذه بِدايةُ زمنٍ آخَر.. لقد بدأ زمنُ الحفرِ في العقُول”..
وابتسمتُ لنفسي: “إنها الرباطُ تُنادِينِي”..
– يُتبَع…