1 – أقدّمُ الديوانَ بمفرداته:
يحرقُ الشاعر أبوفراس جابر الصنهاجي مراكبَهُ في أربعٍ و عشرينَ ساحلاً انزياحياً يبدأ بالربيعِ ينقشُ أحلامَهُ على جدار معتقلٍ، و ينتهي بمكر الوشمِ ينرسمُ على خدّ راقصة. و بين النقشِ و الرقص تنثالُ القصائدُ تباعاً، تغْرِفُ من نونِ الكتابةِ حروفَ الطينِ، مُزْوَرَّةً عنِ سراب الْمِياه، مبْتَهِلَةً في عبير وردة، منشّفَةً شموعَها في صمت الجراحِ، موقِّعةً على سوادِ الليلِ نغماتها الحزينة، ترجو فيها عطف القمر، خشية الضياعِ في أزمنةِ التّيه.
2 – أختارُ تيمةً واحدة:
هي واحدةٌ في صيغة المتعدد. و أقصد بذلك ثلاثية الماء و الكتابة و الألوان. و في لغةٍ إجرائية بعيدة عن التناول العائم أقول:
قد مارستُ على الديوان قراءة إحصائية لا تتغيّى شيئاً سوى رصد المفردات في صورتها المورفولوجية. و بعد ذلك صنّفتُها في خانة الدلالة، فوجدتُ القصائد تتحرّك في كثيرٍ من التيمات أو الموضوعات. و لكن اللافِتَ فيها بقوة سيميائية ثلاثةٌ هي:
- دلالة الماء : 81 تردّداً
- دلالة الكتابة : 70 تردّداً
- دلالة اللون : 51 تردّداً
و لم نحص في هذه الحقول الدلالية مفرداتها داخل الجذر اللغوي الصافي فقط ، بل حرصنا أيضاً على تتبع الكلمة في اصلها و في اشتقاقاتها و في ظلالها. و نمثّل لذلك بكلمة ( الكتابة ) التي أحصينا فيها مايلي : فعل كتب و مشتقاته ، و سجلنا أيضا متعلقات الكتابة مثل القلم و الخط و الشعر و الخطاب و الحبر و كل ما يتعلق بهذا الحقل من قريب أو من بعيد دون ليِّ أعناق المفردة كي نراكمَ حصيلتها في فراغٍ دلاليّ. و الأمر ينطبق على كل الحقول مثل الماء استدعينا فيه مفردات البحر و الموج و السحاب و العطش و غيرها … و في حقل اللون استدعينا الأبيض و الأحمر و الأخضر و متعلقات اللون مثل الثلج و الغراب و الليل و الدم و …
هكذا اشتغلنا حتى نوسّع من أفق تداولنا لمعاني الديوان و لفائض معانيه و لظلال معانيه. في تصورٍ نقدي يتبنّى الحقّ في التأويل المشروط بالقرائن المعجمية و السياقية و الثقافية.
3 – أبحث عن أولِ تجلٍّ :
و أوّل التجلي لعنصر الماء و اللون و الكتابة يتبدّى في العتبة ( أحرقتُ مراكبي ):
- الكتابة – صوغُ العنوان مارسه شاعرٌ يكتب
- الماء – المراكب تحيلُ منطقياً على الماء الذي تمخُرُ عُبابه
- اللون – الإحراق يشي بلون السواد
و حالما ينفتح القارئ على الديوان تواجهه أول قصيدة بعنوان ( ربيعٌ على جدار المعتقل ) و هو تجلٍّ واضحٌ لطقس الكتابة و الماء و اللون، بادرتْ به القصيدة و هي تمسك بالعتبة في قبضة التأويل و احتمال التأويل. فالربيع لا يكون إلّا نتيجة الماء ، و المعتقلُ هو في الأصل اعتقالٌ لفكرة الماء قبل اعتقاله للإنسان، و الربيع لون أخضر، لا يُقحمُ ذاتَه قسراً و تعسّفا، بقدر ما ينساب في نسغ العتبة متخفيّاً في التلميح، رافضاً سطحيةَ التصريح.
4 – أفكِّرُ في اطِّراحِ الشاعر لمقولة الكتابة:
و الكتابة تفيد في الديوان أكثر من معاني التسطير و التدبيج و التحبير و التعبير… إلى الدلالة على الوجود الذاتي و الموضوعي للمقولات المتعددة منها مقولة الإنسان ( الذات مثلا ) و مقولة التاريخ ( الأندلس مثلا ) و غيرهما من المقولات التي تستحق وحدها وقفة قِرائية كاشفة.
و في مثالٍ نستخلصه من القصيدة الثانية و تحديداً في عنوانها ( نون الكتابة ) نشيرُ إلى أن الشاعر أسند فعل الكتابة إلى مفردة النون، و هو إسناد يبحث عن شرعية الكتابة الشعرية و يبحث عن مصداقية الجمالية الصوغية من مرجعية علوية. قال تعالي ( نون و القلم و ما يسطرون ) *1
من هنا استيعابنا لربط الشاعر فعل الكتابة بمفردة النون، باعتبارها حرفاً مقدساً يتمتّع بخاصية صواتية تتميز عن غيرها داخل الصواتة العربية. فهو يتميز بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)*2. ناهيكَ عن شكله المعبّر عن نسقٍ دائريٍّ تتوسّطه نقطة، تدفع بالصورة إلى دلالة الاحتواء و الضم و فعل الاحتضان و التسوير الجليل.
و ينزل الشاعر من سموق المرجعية إلى مخيال الذاتية، ليشخصِنَ في هذا النزول مفهوم الكتابة، داخل منظور يبتعد عن التنظير و التفكير لأن المقام مقام شعر، و لأن الشاعر بصدد الهيولى لا العلم، و بصدد الزئبقية المنفلتة لا الدقة المحددة في صرامة التعريفات. إنه يحاول أن ينكتب، و داخل انكتابه نظفر نحن معشر القراء بشيءٍ من وجهة نظر خاصة حول مقولة الكتابة.
5 – أمارس التأويل على الثلاثية:
- الشعرُ ليس وثيقة:
و لا يفوتُنا تسجيل فكرة التبئير لمقولة الماء و الكتابة و اللون داخل عتبة العنوان الّتي تجاوزتْ محطّة التأشير على الديوان إلى التعبير عن الديوان في أبعاديتِه الدلالية. و هنا بالتحديد بدا الشاعر ماكراً مكراً أدبياً يتبنّى فكرة التاريخ داخل المتخيّل، لا فكرة المتخيّل داخل التاريخ. الشاعر ليس مؤرّخاً كي نطلب منه الحديث عن المراكب، و عن إحراقِها، و عن تماهيها بلحظة زمانية أسّسها علَمٌ بارزٌ في تاريخ هذه الأمة الإسلامية هو طارق بن زياد، أو أن ننتظر من الشاعر تغطية هذه اللحظة بدقّة العالِمِ المتخصّص … الشاعر يدركُ دور الفنّان في حدود لا يشطُّ فيها بمخياله فوق الحدث و لا ينزل بمخياله أسفل الحدث. و الأمر غير متعلّقٍ البتّةَ بوثيقة تاريخية محضة، بقدر ما الأمر متعلّق بتصوّر فنّيٍّ متأتٍّ من ذاتٍ مبدعة في مجال القول، همّها الأول تقديمُ متنٍ شعرِيٍّ متعالٍ عن الواقعِ و محتضنٌ له في آن، لكنْ بطريقةٍ يتحولُ فيها الكاتب لهذه الإضمامة إلى هيولى إنسانية مسكونة بالخيال، بعيْنيْنِ: واحدةٌ تمكر بالإبداع الشعري في أبعادٍ ثلاثيةٍ تستحضر الماء ( البحر) و اللون ( الدم و الجهاد ) و الكتابة ( التخييل لا التسجيل ). و أما الثانية فعينٌ تمكرُ بالصياغة الشعرية القادمة من برزخ البيانِ و الانزياح و تقدّمُ متناً شعرياً يقول كلمته في الذات و الموضوع و التاريخ دون أن يكون هذا المتن متواطئاً مع الحيادية الانهزامية التي تلخصها مقولة ( قل كلمتك و امْضِ ).
- الكمُّ لا يعني:
عندما تحدّث الشاعر في العتبة عن المراكب و عملية الإحراق، ظننَّا من زاوية القارئ السّاذج أن الشاعر سيُغْرِقُ الديوانَ بمفردات المراكب. فإذا بالعكس تجلّى صحيحاً. فلم يتعدّ منسوب ملفوظ المراكب عدد أصابع اليد، و من ثمّة فقد كسّر الشاعر مفهوم الهيمنة و حوّلهُ من ثراء التردد المعجمي إلى ثراء الحضور الرمزي الدالّ. و هذا نوعٌ جديدٌ من الصوغِ الشعري في قصيدة النثر الحداثية. و في هذا التوجّه إدراكٌ طيّبٌ من الذاتِ المتكلمة أن يحظى المتلقي لديها بقدرٍ من الحضور الجمالي الذي يبدو فيه مشارِكاً ذكيّاً لا يستدعي من المبدعِ أن يُراكِمَ لديهِ مفهومَ الكمّ، و يقصّ من أجنحة تحليقه في التخيّل بتوجيهه اللامباشر بوضعِ كثيرٍ من المحطّات المعجمية، و كأنها علامات التشوير في الطريق… يتركُ الشاعر للمتلقي مساحة واسعة من حقّ التخييل لممارسة حقّ التأويل. و لأن المبدعَ مؤمنٌ بتناسل النص و توالده خارج ذاتِهِ. فقد جنح إلى جمالية التلقي التي ترحّب بفكرة التفاعل المُهرّب للقراءة من سلطة النصّ و ” فيتيشية ” المؤلّف إلى الانفتاح على تعددية القراءات و التأويلات و احتمالات المعنى. ذلك أن ( الإبدالَ لجديد الذي تقترحه جمالية التلقي هو الاهتمام بأثر النص في القارئ، لا بالأدب في حد ذاته أو في حد مرجعيته و حمولته الفكرية و تاريخيته، و لا من حيث ماديته الشكلية و اللغوية. الإبدالُ هو ما وقعُ النص في القارئ؟)*3
- بلاغة الماضي:
تسكنُ الأندلس في العنوان عبر تحويل الإسناد من معترك الذاتِ ( أحرقتُ مراكبي ) حيثُ التاء المرفوعةُ على الفاعلية و حيث النسبة المتكلمة في ياءِ المراكب، إلى معترك الموضوع، أو التاريخ إن شئنا التعبير المباشر. و فيه يستدعي الشاعر المتلقي في بوّابتَيْ بيانِ التصريح ومخيال التلميح. فالمراكب كانت على الساحل في اتجاه الآخر حيث الأندلس تنتظر المنقد. و هذا لم يتكلم عنه الشاعر من باب أنه ليس مؤرخا، و لكن المتلقي قارئٌ و منتج جديد يقوم بالتأويل. و حتّى التصريح بمفردات الأندلس كان شاعرياً بامتياز و منه دلف الشاعر و أدلفَ معه المتلقي لاجتناء القطاف الشعري في هذا المقطع:
رائعةٌ حينَ تكتُبِين
و في بوحك جنونٌ كسّر القيود
في نبضك ربيعٌ و تغريد
شلال شوقٍ و حنين
بستان عشق بأندلس
يحكي لوعة ابن زيدون
و اشتياق ولّادة
و بسمتك عابرة للأقفال
همسات تغرّد في كياني *4
و تسكن الأندلس في الديوان دون أن تثير غبار المعجم، لأن الشاعر يؤمن بأنّ كثيرا من الحقائق تدخل في مقولة الآمدي ( إن من الأشياء ما تدركها المعرفة و لا تحيط بها الصفة ). و المعرفة هنا غير متحيّزة في المكان، بقدر ما تنسرب في عموم المكان، و نقصد بذلك المكان العربي الذي تبدو فيه ذاتُ الشاعر لا تفرّق بين أندلس و عراق و مصر و مغرب… قال الشاعر في ديوانه:
هل جفّ النيل في صعيدنا
و أغرق الفرات مراكبه
و بلع النمل المياه قبل الحصاد
ما بال دجلة سقط مغشياً عليه *5
شعرية الزمان تلتقي مع شعرية المكان معجونتيْنِ في تجربة الماضي الّذي تستثمرهُ ذائقة الشاعر في مخيال هادفٍ لا يشطُّ في رومنسية الخطاب الحالم، بقدر ما يندفع سائلاً و متسائلاً في نسق الاعتبار، محقّقاً بذلك انسجاماً جمالياً داخل تشعّبٍ أكثر جمالية.
6 – سيمياء اللون في الثلاثية الدلالية:
تقوم شعرية اللون أو الألوان في ديوان ( أحرقتُ مراكبي ) على تشكيل اللغة لتعيد تشكيل عالمٍ بديلٍ عن العالم الواقعي، داخل منظور تخييلي لا يكسر الرابط المعنوي و الدلالي القائم بين الأشياء في وجودها المرئي و بين الأشياء كعلامات تلج مخيال الشاعر لتخرج منه كائناتٍ زئبقية طافحة بالأبعاد.
و في ذلك المسار يلعب الشاعر لعبة الألوان :
و نقصد به توظيف دلالات الألوان في تناغم بين الصورة الذهنية للون و بين الصورة البيانية الكاشفة لهذا اللون أو ذاك . و الصورة هنا تستنجد بالانزياحات الغائرة كي تلقيَ باللون الفيزيائي خارج التمثل الحسّيّ لتنقل المتلقي إلى اللعبة الشعرية المتوسلة سيمياء التأويل المشروط.
ومنها تجانس اللون في ماهية اللون ( أبيض ) مع الماهية في جسدٍ يحمل دلالة هذا اللون ( الثلج )، أي أن الشاعر يمارس لعبة التجانس بين المحمول، أي البياض، والحامل، أي الثلج… أنظر الصفحة 10 من الديوان مثلا. و فيه يخرجُ الشاعربالتعبير من بداهات المعجم إلى معانقة الأشياء في تجليّاتها السيميائية الخازنة لمجموعة من الدلالات. فالبياضُ هنا لا يستثمره الشاعر باعتباره لوناً فيزيائياً بليدا تقف معانيه عند حدود الأصباغ، بقدر ما هو إشارة علاماتية تفضح في سمتٍ بلاغيٍّ ساخر هوية الموصوف. ونجد مصداقاً لذلك في مثالٍ من القصيدة الأولى حيث يصف الشاعر الأحلام التي ماتت بقوله ( يحرسها غرابٌ أبيضُ كالثّلج ) أنظر الديوان ص 10.
و إذا استمدت العلاقة بين البياض و الثلج مصداقيتها من مقولة المشابهة البائنة من خلال كاف التشبيه، فإنها في سياق آخر استمدت علاقتها من تجانس النقيضين ( البياض و الغراب ). و حيث إن الأحلام ماتت فهي تنتظر درسَ الدفن التاريخي النازح من القصص القرآني، فيكون الغرابُ معادلاً موضوعيا يقتحم الصورة ليؤثّت بنياتِها البيانية بمزيدٍ من الضوء. اللون الأسود الدال على الموت نقيض اللون الأبيض الدال على الحياة،و في هذا التجانس يرقد عمق الانزياح، إذ الشاعر يكشف لنا في غير تكرار للتاريخ أن الغراب هنا غير حاضر ليعلّمنا طقوس الدفنِ و إن كانت الفكرةُ واردةً في بعض التأويل، و لكنه فضلاً عن ذلك هو حاضر لا ككائن حيواني بجناحيْنِ و منقار، و لا كصورة مكرّرة لفعل الدفن، و لكنه حاضر كسوادٍ دلاليٍّ و بؤَرِيٍّ يقصّ من تحليق أحلامنا بسواده الغريب. قال الشاعر في نفس سياق حديثه عن الأحلام ( حين تطل أحلامنا من القبور – يصعقها صوت الغراب ص 10 ). و إمعاناً في النكاية بهذه الأحلام يضيف الشاعر إلى كينونة الغراب و إلى سوادِه مكوّناً آخر هو صوتُ الغراب المرتبط بالصعاق. و فيه ما فيه من دلالة السلب و الخواء و النفي و الخراب…
و منها تجانس المحمول و الحامل في مفردتيِ الحمرة و الدم، و هذه الثنائية حاضرة في الديوان بشكل ملفت، نستدل على حضورها بالتمثيل لا بالحصر و نقف هنيهة عند القصيدة السادسة ( سيد الشهداء ) حيث اللون الأحمر حاضرٌ في صيغٍ متعددة منها ( الدماء – بالدماء مدرجة أيدينا – الدماء الزكية – في عروقنا – نصلي بدون نزيف – نصلي و الدماء جارية – … ص 31 – ص 36) و سياق القصيدة يعضد مذهبنا في التخريج. الحمرة في هذا السياق متوارية تترك لتداعياتها و متعلقاتها شرف البيان. قال الشاعر ( نصلّي بدون نزيف ص 36) معتمداً ظلال الإشارة بدل أجساد العبارة، في علاقة ( تقوم على المجاورة فتكون العلاقة هنا سببية منطقية )*6 بين المحمول، أي الحمرة و الحامل أي النزيف. و مثل ذلك التركيب كثيرٌ في الديوان بفصح عن دراية شعرية من لدن الشاعر الذي تأبى ذائقته الإمساك بالمعاني داخل شرنقات التقليد البلاغي، و تفضل التحليق في مخيال الانزياحات الذكية القابضة على المعنى لتتجاوزه إلى فائض المعنى … و هكذا الشعر.
إن عبارة ( نصلي بدون نزيف ) عبارة ممتدة في عالم البلاغة الجديدة المبنية على اختيارات دقيقة لمنسوب التخييل، ذلك أن الصلاة تستدعي وضوءا و ماء، و الدمُ هنا معادل بلاغي غائب يستحضر الشاعر بعض تداعياته ألا و هو النزيف، لترتسم الصورة أمامنا بالغة في الوخز، حيث الدم سيد الموقف في سياق القصيدة الماتحة ألوانها من تيمة الشهادة، و هي تيمة تعجّ بالحمرة و الدم، فيأتي قرار الشاعر بإيقاف هذا المشهد الأحمر توصيفاً للحياة البديلة عن قهر التيمم بقنافد الحظيرة… هكذا تتمازج في عرف الثلاثية صبغةُ الماءِ في مقولة الوضوء المتخفية، بصبغة اللون في الحمرة المتوارية بصبغةِ الكتابة الواعية بلحظة المفارقة و الخلاص. قال الشاعر في محور الكتابة ( العريس في مرقده يتلو الكتاب ص 34 ) و التلاوةُ هنا قرار ربّاني يعشق نهاية الشهادة في حرير الجنة و زعفرانها و مسكها كما لمّح إلى ذلك الشاعر ( ص 35 )
7 – أكتشف لعبةَ الكتابة في الديوان:
أعتبر الانزياح اسلوباً بليغاً و ماكراً في بلاغته و هو ينقل إلينا دلالات الثلاثية ( الماء و اللون و الكتابة ) نقلاً أيقونياً و إشارياً و زمزياً، في انتقالٍ بديعٍ بالعلاقة بين الدال و المدلول، من مقبرة المعنى إلى حدائق اللامعنى، و أقصد بذلك فائض المعنى في أبعاده الدلالية و في دلالاته البعيدة و المحلقة في عوالم التخييل المحترمة لجمالية التقلي كنسق إبداعي، و لحضور المتلقي كطاقة قارئة و مؤوّلة. و في هذا الصدد سنختار بعض المقاطع من بين كثير، و هي كلها تميط اللثام عن منظورات الشاعر لفعل الكتابة باعتبارها آلية لا تقف عند حدود الصوغ الشعري و إنما تتجاوزه إلى آفاق الصوغ الوجودي لمختلف الماهيات المتناثرة هنا و هناك في غضون الديوان:
القصيدة الشاهد الصفحة
1 على جدار المعتقل كتبنا- صفحة 12
2 اكتبيني رواية – ص 14
4 و حروف فقد لغتها – ص 24
4 أشعاري تحررت من القافية – ص 30
6 العريس في مرقده يتلو الكتاب – ص 34
7 و لا القراءات المتواترة – ص38
9 نكتب الأسماء كلها من جديد – ص 46
14 قلمي كان واعياً بكلمات – ص 63
17 تعطلت لغة الخطاب – ص74
22 يغازل القرطاس و المحبرة – ص 94
23 يراجع الفرزدق قصائده – ص 98
24 ركبنا صهوة الحرف – ص 100
اخترنا هذا الغيض من ذاك الفيض تقريباً للقراءة من الأفهام، و ليس إحاطة شاملة. فذاك أمر موكولٌ إلى أفق آخر يدرس الديوان في كلياته الممكنة.
الكتابة جزءٌ من موضوعةٍ كبيرةٍ في الديوان، هي ثلاثية الماء و الكتابة و الألوان. و من منظوري الخاص، هي تداخل ذكيٌّ من الشاعر يبني به فلسفته في الفنّ و الحياة.
و حديثنا عن كل طرف في هذه التيمة على حدة هو مجرد إجراء تفكيكي لتقريب المسافة بين الديوان و القارئ. أما حقيقة الأمر فلا إمكان للفصل في تصور الشاعر بين الماء و الكتابة و الألوان. فهي أشكالٌ متداخلة و منسجمة أشدّ الانسجام في إطار النسق الثقافي لهذا المبدع، على الرغم من تشعّباتها الماهياتية، إذ الماءُ مفارقٌ للكتابة و للون، و لكنّ هذيْنِ الأخيريْنِ متعلقان بالأول في ثقافتنا الإسلامية من باب المرجعية والمصدرية ( و جعلنا من الماء كل شيء حيّ ). و مما يعزّز طرحنا أن حقل الماء مهيمنٌ درجاتٍ قصوى في الحضور مقارنةً بالكتابة و الألوان.
الشاعر لا يكتب إلّا من زاوية الوعي بفن الشعر:
أفتّش في قشّ أدواتي عن أثر لك
عن أوراق سقطت منّي ذات خريف
قلمي كان واعياً بكلماتي حتّى النّخاع
قبل أن يخطّها على الورق يسائلني
يعتذر عن بعضها … و يأبى التدوين. ص 63
و هو في وعيه بمادّة الشعر لا يسقط في صرامة الحدّ العلمي، بقدر ما يحرص على العومِ في كيمياء التخييل، حتى لا يسقط في شعر الفكرة الّتي لا يتبنّاها الديوان و لا يغازلها حتى مغازلة. و الكتابة الشعريةُ في آخر المطاف ماءٌ يجري في نسغِ الإنسان، و عوضَ أن ينساب رقراقاً بعذبِ الزلال، نجده ينساب رقراقاً ببليغ الألوان. فيضمّخ وجودنا بالأبيض و الأحمر و الخضرة و اللون الفضي و الذهبي و غيره من الألوان ليقول لنا في صمتِ الشعر:
أنا الشاعر أبوفراس جابر لا أدقّ مسامير الواقع في تسجيلية الحرف البليدة، و إنما أصنع من المعتقل أفقاً مفتوحا على البياض الجميل، و أشقّ جداراته بعنف الخضرة الآتية من قلب الشهيد، و أحوّل الحمرة في تاريخ الأندلس إلى رؤية فضية تلهج بالضوء، و أصبغ مياه دجلة و الفرات و النيل بعبق الانسياب الرقراق الحامل للشعور بالمكان و التاريخ في امتدادهما خارج شرنقات التحقيب، و أدلفُ بمعية عشقي الخاص إلى بساتين الماء و اللون لأكتب أجمل قصيدة أحبّ فيها إنسانٌ إنساناً يستحق أن يكونَ نجمةً في سماء العاشق.
8 – ختمٌ:
لا أقول إنني قرأت الديوانَ في شموليته و في مستوياتِ تعبيره، و في بنياته التركيبية و البلاغية و الدلالية و غيرها… فهذا ضربٌ من الادّعاء. كل ما فعلتُهُ أنني شاكستُ بعضاً منه في أفق واحد تلتقي فيه عينُ الشاعر و عيني على مفترق ثلاثية الماء و اللون و الكتابة بهما و عنهما، في احتشامٍ شديدٍ لأن الديوان مفتوحٌ جدّاً على شساعةِ التأويل و قوة الاحتمال، فيما أناختْ قراءتي القاصرة عند عتبةِ جزءٍ من هذا الاحتمال الّذي أقول فيه: اجتهدتُ و في نفسي كثيرٌ من ” لوْ ” …
إحالات :
1 – الآية 1 ، سورة القلم
2 – محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40
3 – هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي من أجل تأويل جديد… ترجمة رشيد بنحدو، منشورات ضفاف، الرباط ، ط 1، 216 ، ص 109
4 – أبوفراس جابر الصنهاجي، أحرقتُ مراكبي، مطبعة وراقة بلال، فاس، ط 1، 2022، ص 18
5 – نفس المرجع، ص 31 و 32
6 – جميل حمداوي، السيميوطيقا و العنونة، مجلة عالم الفكر، العدد الثالث، مجلد 52، يناير- مارس 1997، ص 86