* د. مهدي عامري
أستاذ و خبير الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط، المغرب
كان أنور شاباً مخضرما حقيقيا يعيش بين عالمين لا يلتقيان إلا في ركن عميق سحيق من ذاكرته: عالم الورق الذي تربى فيه على البطء والعمق والمثابرة، وعالم الشاشات الذي دخل إليه حين اشتد عوده و شب عن الطوق، ليجد السرعة تتحكم في كل شيء و تلتهم الاخضر و اليابس. و كان أنور يحفظ في ذاكرته الحسية رائحة كتب التاريخ التي كان مولعا بها إضافة لعبق مجلات العربي الكويتية التي قرأ منها في شبابه المبكر مئات من النسخ بعشق جنوني و شغف لا مثيل له بفعل القراءة، و التي كانت بالنسبة له الهواية الأولى و متعة المتع. و في الوقت ذاته لم يكن أنور لديه مانع من أن يقرأ أونلاين آخر الكتب و الإصدارات في الرواية و النقد و الشعر و خاصة الرومانسي منه.
أنور كان شاهداً على عصرين: زمنٌ أول تُطبخ فيه الأفكار على الجمر شبه المنطفىء، ببطء، بتؤدة، حتى تنضج تماما، وزمنٌ ثان تُستخرج فيه الإجابات بسرعة البرق حتى وإن لم تكتو بنار الطبخ. هل كان أنور جسراً بين الماضي والمستقبل، او بين ما يسميه أفلاطون “عالم المثل” وما يسميه ابن عربي “عالم الحقيقة” ؟ هل كان همزة وصل بين ما يسميه إدغار موران ” الطابع المركب و المتعدد الأبعاد للمعرفة” وما كان يسميه ألدوس هوكسلي “الجنة الصناعية التي تفقدنا الوعي” ؟
ربما..
و ربما أيضا لهذا السبب كان يتعامل مع الذكاء الاصطناعي بحساسية من عاش تجربتين متناقضتين: تجربة الورق الذي يعيد الإنسان إلى نفسه، وتجربة الشاشة التي تدفع الإنسان إلى الخروج من ذاته. كان يعرف أن العالم تغيّر، ولكنّه حرص دائماً أن يظل الإنسان داخله هو الأصل، لأن التقنية مهما تعاظمت و تقوت، تبقى انعكاساً لروح مستخدمها، لا بديلاً عنها.
كان أنور يدرك، في الأشهر الأخيرة، أنه يعيش علاقة معقدة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ علاقة لم تعد عنده مجرد استعمال لأدوات رقمية، بل تجربة تكشف له شيئاً جديداً عن ذاته في كل مرة يجلس فيها أمام الشاشة. كان يشعر أن هذه التكنولوجيا تعمل داخله مثل البوق، يضخم ما لديه من قدرات ومعرفة، يكبّر أفكاره ويعيد صداها إليه بشكل أعمق وأكثر اتساعاً. كان يقول في نفسه: “ربما يضاعف ال AI قدراتي الذهنية عشر مرات أو مئة، والله يضاعف لمن يشاء.” كان يندهش حين يرى كيف يفتح سؤال بسيط أمامه طرقاً كثيرة، وكيف يصبح عقله مثل مرآة أفلاطونية تعكس ظلال الحقيقة وتدفعه للبحث عنها. لكنه، في المقابل، كان يرى أن بوق ال AI يقف بلا فائدة أمام من لم يقرأ، ولم يتأمل، ولم يدرّب عقله على التفكير. كان يشبه في ذلك ما قاله ابن رشد عن أن “العقل بالقوة لا ينفع ما لم يُستعمل”، وكان يرى أن الذكاء الاصطناعي لا يزيد الفارغ إلا فراغاً، ولا يزيد الجاهل إلا ضياعاً. و لعله كان مقتنعاً أن الذكاء الاصطناعي ليس معجزة، بل هو بالأحرى مرآة مكبرة، تُظهر حقيقة المستخدم. الذكي يزداد ذكاء، والباحث يتسع أفقه، أما الغافل فلا تفتح له التقنية باباً لم يطرقه بنفسه. وكان كلما تأمل هذا الأمر تذكّر كلمات ابن عربي: “ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده”، وكأنه يقول: إن الأداة لا تُعطي ما ليس فيك أصلاً، بل تكشف عن نورك أو عن ظلامك.
ومع مرور الأيام، وجد أنور نفسه أمام معضلة أخرى: الاعتمادية المفرطة على الAI و أثرها على تبلد الفكر و قتل التفكير النقدي. كان يرى كيف يُستبدل الورق بالشاشة، والجهد بالضغطات السريعة، والتأمل بالإجابات الجاهزة. و كان يرى جيلاً كاملا يؤمن أن المعرفة تصنع على عجل مثل صور السيلفي و مقاطع الانستغرام، و الحال أن العلم الحقيقي، في نظره، اشبه ما يكون بحرث الأرض و انتظار الغيث. و من جملة ما لاحظ مؤخرا كيف ينسحب البعض من حلبة التفكير الحقيقي إلى روتين النقر اللاواعي، وكيف يتنازلون عن حقهم في الشك المنهجي والسؤال والحيرة. كان ذلك بالنسبة إليه تراجعاً خطيراً، لأنه يعتبر التفكير العميق جوهر الإنسان، كما قال أفلاطون حين فسّر فعل الفلسفة بأنه “تذكّر للمعرفة الأزلية”. وكان يقول لنفسه: “إذا أعطيت عقلك كليا للآلة، فقد سلّمت روحك للشيطان و حكمت على نفسك بالضياع.” لذلك، كان أنور يقاوم. يعود إلى دفاتره القديمة، تلك التي تحمل آثار أصابعه وتمرّداته. و يعود إلى خربشاته. و كان أنور يمشي طويلاً ليعيد ترتيب أفكاره، لأن المشي في نظره طريقة أصيلة لفهم الذات، على نهج و سيرة العرفين، أهل الله. وكان أنور يسافر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لأن السفر عنده مدرسة و سياحة في أحضان المجهول. وكان مثل إدغار موران يرى أن المعرفة ليست يقيناً بسيطاً، بل مسارا مركبا هجينا يحتاج إلى البطء و التأمل والتداخل بين المنهجيات و العلوم. لذلك كان يخصص وقتاً للتجربة و الخطأ، و وقتا آخر للشك، وللاحتكاك بالحياة في صورتها العارية الفجة. و من الثابت أن صاحبنا كان يوقن بأن الذكاء الاصطناعي، على قوته، لا يستطيع أن يمنحه عمقاً ما لم يبذل هو جهداً للوصول إليه. و كلما رأى متبلدي الفكر حوله يزدادون تمسكاً بتلك الأساليب القديمة التي تحجر العقل أدرك أن حماية نفسه من الاعتمادية المفرطة على التكنولوجيا ليست قراراً معرفياً فقط، بل هي مسؤولية روحية بامتياز. فالإنسان، كما قال ابن عربي، “إنما يتحقق بالجمع بين العقل والقلب”.
غير أن السؤال الذي كان يُقلق أنور أكثر من أي شيء آخر هو سؤال الخصوصية. بعبارة اخرى، ماذا تفعل هذه النماذج بكل ما نمنحه لها من البيانات؟ ومع الوقت، فهم الحقيقة التي حاول كثيرون تجاهلها: أن الذكاء الاصطناعي يتدرب علينا، يتضخم بنا، يتقوّى بفضل ما نكتب وما نقول. و هنا كان يشعر أنه يتحول، دون أن ينتبه، إلى بطارية تشحن الآلة، وإلى مصدر بيانات يغذّي قدراتها. و كان يرى نفسه كمن ينفخ في بوق عملاق يزيد قوة الروبوتات، بينما يسحب من داخله شيئاً من خصوصيته ومن حياته. و لعل هذه الصورة المظلمة كانت تذكّره بما كتبه فيلسوف – نسي اسمه – عن الإنسانية المعاصرة حين قال إنها قد تُباع و تشترى لتحقيق السعادة الاصطناعية وتنسى قيمتها الداخلية. لذلك قرر أنور أن يضع حدوداً فاصلة و واضحة بينه و بين الآلات: لن يمنحها أسراره، و لن يعطيها صورته الداخلية، و لن يسمح لها أن تدخل إلى المناطق التي يجب أن تبقى حديقته السرية. كان يقول: “الذكاء الاصطناعي قد يساعدني، لكنه ليس صديقي، وليس حكماً على نيّاتي، وليس أوفى من ذاتي.” و هنا كان يدرك، كما قال ابن رشد، أن “العقل وحده لا يكفي ما لم يُضبط بالشريعة والأخلاق”. لماذا ؟ لأن التقنية تحتاج إلى حزمة مبادئ كي لا تتحول إلى وحش كاسر. لذلك تعود أنور أن يتعامل معها مثل مسافر حذر في طريق مليء بالمفاجآت، يستفيد منها دون أن يوليها ثقته العمياء، و يقترب منها حين يحتاج، ويبتعد عنها حين يشعر أنها تسحبه نحو فقدان المعنى.
ومع مرور الأيام، أدرك أنور أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون نعمة أو نقمة، أي بوقا للوعي أو مرآة للغباء، بحسب الإنسان الذي يقف خلفه. وكان يقول في سره إن التقنية ليست قدراً، بل هي مرآة تعكس ما في الإنسان من نور أو ظلام. فإن كان واعياً صارت نبراسا تنير له الطريق، وإن كان غافلاً صارت فخاً يطبق عليه.
وهكذا عاش أنور حيا يقظاً بين عالمين: عالم الإنسان الذي يفكر ويسأل ويشك، وعالم الآلة التي تضخم ما تجد أمامها. هكذا عاش أنور حاملا دائماً تلك القناعة القديمة الجديدة بأن الذكاء ليس في الأدوات، بل في اليد التي تستخدمها، وأن الحقيقة ليست في الإجابات السهلة الجاهزة، بل في الرحلة التي يخوضها العقل بحثاً عن ذاته، تماما كما علّمنا على مدار التاريخ، كبار الفلاسفة و المفكرين.















