هل بالغ طلحة جبريل حين وصف الصحافة بأنها «تأكل أبناءها»؟ قد يبدو العنوان صادمًا لأول وهلة، لكنه يتحول إلى مرآة واقعية عندما نتأمل ما يجري داخل المشهد الإعلامي المغربي اليوم.
فالقصة التي يقدّمها جبريل في كتابه ليست مجرد سيرة ذاتية ولا نقدًا عابرًا للمهنة، بل تحليل لبنية كاملة تجعل الصحافي هو الحلقة الأضعف في سلطة يُفترض أنها تقوم على حماية الحقيقة وحامليها. الصحافة، كما وصفها، مهنة تبذل فيها روحك ووقتك واستقلاليتك، لكنها لا تضمن لك بالمقابل الحماية اللازمة عندما تتعارض مواقفك مع مصالح أصحاب القرار داخل المؤسسات أو خارجها.
في هذا السياق، يظهر ما حدث للصحافية حنان رحاب كتجسيد حيّ لما دوّنه جبريل قبل سنوات.
فقرار تجميد مهام رحاب داخل جريدة «الأحداث المغربية»، دون تبرير مهني واضح، وفي توقيت انتخابي حساس، يعيد طرح السؤال المعقّد حول حدود استقلالية الصحافي، وعلاقة المؤسسات الإعلامية بخيارات العاملين داخلها. ليست المسألة هنا موقفًا مع أو ضد رحاب، ولا تقييمًا لانتمائها السياسي أو النقابي، بل سؤالًا عن مبدأ أساسي: هل يجوز لمؤسسة صحفية أن تعاقب صحافيًا بسبب موقعه السياسي ما دام لا يمسّ بمهنته ولا يخرق خطها التحريري؟
الأكثر إيلامًا هو الصمت الذي رافق الواقعة، أو تعامل بعض الهيئات معها بكثير من الحذر، رغم أنها تمثل وضعًا يمس جوهر المهام النقابية: الدفاع عن الصحافيين أمام قرارات قد تحمل طابعًا عقابيًا.
فإذا كان الصحافي لا يجد الدعم داخل مؤسسته، ولا يجد مساندة واضحة من نقابته، فإلى من يلجأ؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن إصلاح قطاع الإعلام بينما الحماية المهنية لأهله ما تزال مرتبكة ومضطربة؟
ما وقع لحنان رحاب لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من التوتر بين الصحافة والسياسة في المغرب. فحين يدخل الصحافي مجال الشأن العام، تقلّ مساحة التسامح معه، وتزداد حساسية المؤسسات تجاه حضوره.
لكن هذا الواقع لا يبرر تحويل المهنة إلى أداة لتصفية الحسابات أو ضبط السلوك السياسي لمن ينتمون إليها.
فالعمل الصحفي ليس نقيضًا للممارسة السياسية ما دام الصحافي ملتزمًا بأخلاقيات المهنة وبالمسافة المهنية الضرورية.
اليوم، يبدو أن الفكرة التي بناها طلحة جبريل في «صحافة تأكل أبناءها» لم تتقادم. بالعكس، تزداد راهنيتها كلما ظهرت واقعة جديدة تكشف هشاشة الوضع المهني للصحافيين، وضعف الحماية التي تُفترض أن توفرها المؤسسات والنقابات، وتداخل الأدوار بين السياسي والإعلامي.
ليست المشكلة في الأشخاص، بل في منطق كامل يعيد إنتاج نفسه: عندما تشتد الضغوط، يكون أول من يدفع الثمن هم الصحافيون أنفسهم.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل نريد في المغرب صحافة قوية وصحافيين محميّين، أم نريد مؤسسات تزداد قوة بينما يزداد العاملون داخلها هشاشة؟
ما دامت الإجابة معلّقة، ستظل الحكاية تتكرر، وستظل الصحافة، للأسف، مهنة تأكل أبناءها.















