بات من الواضح أن تحرير الاقتصاد يقع اليوم خارج دائرة السياسيين ، فالنظام الاقتصادي الليبرالي الجديد هيمن على مراكز القرار السياسي ، وأضحت الليبرالية المتوحشة تكتسح جميع الاسواق بقوة المال ،بما فيها السوق الانتخابي ؛ لهذا فالساسة الاقتصاديون الجدد لا يعتقدون في الروابط الأخلاقية او العقود السياسية التي تربط بين السياسي والناخب، وإنما يعتبرون السلطة سلعة تم شراؤها يوم الاقتراع ، وان البائع أخذ ثمنه وانتهى الامر، ولهذا نعت عضو المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للاحرار، ورئيس مجلس النواب السيد رشيد الطالبي العلمي جزء من الكثل الناخبة ب ﴿ هادوا مساكين للي مراضين للي دايرين هاد الحملة ﴾.
لا يمكن فهم هذه العبارة وتفسيرها إلا في سياق سياسي مكبل بأحزاب مهمشة ومقموعة عفا عنها الدهر وأصبحت في قطيعة صارخة مع القاعدة الاجتماعية. لكن حذاري فوضع مماثل لا يمكن لا يمكن ان يفضي إلا إلى ظهور المجموعة المهمشة، التي قد تنطلق من العالم الافتراضي في شكل هاشتاغات وصولا الى وضعية النزول الى الشارع، إذا لم تبادر الدولة -وليست الحكومة -إلى خلق انفراجات .
لقد عودنا عاهل البلاد بقراءاته الحكيمة للواقع الاجتماعي قبل السياسي …فبالأمس كان خطاب 9 مارس2011 الذي استوعب بنجاح ضغط المرحلة فحصل الانفراج، واليوم وبنفس الرؤية يأتي خطاب العرش 30 يوليوز والذي ادان وبشكل صريح من يخدمون مصالحهم الخاصة في ظل تدبيرهم للشأن العام
إن الحقيقة الماثلة الآن امام المتتبع للشأن العام هي ان دائرة المنتسبين لهشتاغات الرفض في اتساع مضطرد ،فهم ينتقدون الليبرالية الاقتصادية ويرفضون تجلياتها في الحياة اليومية في اقتصاد الريع وخوصصة الخدمات والممتلكات العمومية وتواطؤ المال والسياسة إحقاقا لمطلب العدالة الاجتماعية…..
فهاشتاغ ﴿﴿أخنوش إرحل﴾﴾ على سبيل المثال ، بقدر ما هو موجه الى الحكومة كي تتبنى نهجا اجتماعيا في سياستها العمومية ،بالقدر نفسه موجه إلى الدولة حتى لا تتخلى عن التزامها بحماية المواطنين ضد الاستغلال وأن تجعل الفضاءات العمومية مجالا للتعبئة المواطنة والاحتجاج الاجتماعي ، فكتم الاصوات ورصد التحركات بشكل مبالغ فيه يصيب في العمق دينامية المجتمع المدني الجاد والفعال ويخلق في المقابل مجتمعا مدنيا متملقا و خنوعا يبحث عن الريع لتدبيج البلاغات والبيانات على مقاس أولياء النعمة بغض النظر عن مرجعياتهم او أجنداتهم. وهذا لعمري يئد الديموقراطية ويؤخر التنمية المنشودة.
هذا ما جعل من العالم الافتراضي مجالا لالتقاء الاشخاص المبعدين عن المساهمة في تدبير السياسات العمومية : المعطلون ، المياومون، الطلبة، الفنانون، الأطباء ، المحامون ،الاساتذة، الشباب ، المسنون……لقد أصبح العالم الافتراضي مكانا للتعبير عن مختلف أشكال الظلم الاجتماعي في مجال توزيع الموارد العامة.
فرضا ، لو تم إسقاط حكومة أخنوش أو على الأقل إيقاف مسيرة بعض وزرائها هنا يطرح السؤال: هل هناك بديل جاهز له القدرة على الدخول في حوار وشراكة مع المجتمع ؟
أعتقد أن البديل الاقتصادي والسياسي لا يقوم ولاينشأ إلا في المجتمعات المنفتحة أولا، والمتحررة من القيود الأمنية تانيا ، ومصادرة الحق في الاحتجاج هو أبهى تجليات هذه القيود.
إن الاحتجاج ، مظهر من مظاهر الديموقراطية التشاركية ؛ والوجه الظاهر من حرية التعبير ذو البعد الاجتماعي في إطار جدلية ( المواطن/ الدولة )، وإذا ما تم كبحه بدون مبررات قانونية وحتى دستورية ((الفصل 29)) فإنه يخلق بشكل اوتوماتيكي الوجه الاخر الخفي من حرية التعبير ذو البعد الاقتصادي والسياسي الا وهي المقاطعة : مقاطعة المنتجات او الانتخابات او هما معا .
اذا عدنا الى تجربة حكومة التناوب بقيادة المرحوم اليوسفي، نجد أنها بعد حصولها على ضمانات سياسية ومالية من الدولة باشرت تبني سياسة تروم تحقيق السلم الاجتماعي من خلال حوارات جادة مع المركزيات النقابية وتوقيع اتفاقيات، لعل ابرزها حلحلة ملفات الترقيات المجمدة لأكثر من 64 ألف موظف، تلتها زيادة في الأجور شملت الجميع بشكل متدرج على مدى ثلاث سنوات مع ترك باب الحوار وحتى الاحتجاج مفتوحا لرصد مطالب المواطنين
إذن فالاحتجاج، مادام حقا دستوريا، هو جهاز من أجهزة الرصد تمتلكها الدولة، لكن الحكومة هي من يتحمل تبعاته ومسؤوليات تدبيره ومآلاته.
باختصار إن الديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي فقط، فهي لا تقوم على أساس حقوق التصويت، وحق تأسيس الجمعيات، وحق الإضراب وضمان قضاء مستقل وإدارة نزيهة وشفافة…….بل هي أيضاً ،وهذا هو الاهم، وسيلة للتفكير في تنظيم الحياة الاجتماعية ؛وهذا يعني سياسيا أن على الدولة أن تضمن الحرية والمساواة لمواطنيها من خلال جعلهم في مأمن من التعرض للتعسف والهيمنة والاذلال (الخرجات الإعلامية غير المبررة وغير الموفقة لأكثر من عضو ينتسب الى الحزب الحاكم) .
إن الفجوة التي اتسعت بين المواطنين وأولئك الذين يسيرون شؤونهم او يمثلونهم او يتكلمون باسمهم ،أظهرت بالملموس أن الدولة بالمفهوم العام غير قادرة على تدمير قدرة المواطنين على إبداء الرأي ( ولو بالهاشتاغ ) في تصرفات الذين يسيرون شؤونهم وعلى قدرتهم على معارضتهم وحتى مقاومتهم (المقاطعة الاقتصادية)
إن الخطأ الاستراتيجي الذي يمكن أن يرتكبه رجل الأعمال هو التفكير في ممارسة السياسة في مستوياتها العليا طمعا في حماية مصالحه الاقتصادية في أفق مراكمة الثروة، ولكن ينسى ان المواطن الذي يلبس زي الناخب في لحظة قصيرة عابرة، هو نفس المواطن الذي يرتدي قبعة المستهلك لمدة خمس سنوات، وبالتالي يقبع السياسي /المستثمر تحت رحمته
ربما حكومة رجال الأعمال ربحت الرهان تكتيكيا اما استراتيجيا فلا أعتقد ذلك، وتلك الأيام نداولها بين الناس