نشارككم في هذا المقال عددا من الأفكار و الانطباعات حول واجبات و حقوق الصحفي في عالم ما بعد الوباء.
يمكن أن ننظر الى هذا العالم المتغير، في رأيي من زاويتين اثنتين :
- الظرفية الوبائية العالمية (كوفيد 19 و تداعياته المستمرة على المجتمع و السياسة و الاقتصاد…)
- التحول الرقمي المتسارع في ظل جائحة كورونا
في الأعوام الأخيرة، عرضت جائحة كورونا الحريات و المكتسبات الديمقراطية للخطر الشديد، بسبب إجراءات الطوارئ المتشددة التي فرضها واقع السيطرة على تفشي الفيروس في أكثر من 100 بلد حول العالم. و في هذا السياق الدقيق، اضحت الأخبار الكاذبة – التي زاد من حدتها الاختناق الفكري و العزلة النفسية التي فرضها الوباء على الناس – تتسرب بشكل مفزع ناشرة جوا من الخوف من المرض، وجاعلة الإعلام الدولي مركزا في المقام الأول على تطورات و تحورات الوباء العالمي العابر للقارات و الأزمنة و الأمكنة.
- ما هي مسؤوليات الصحفي المهني في ظل جائحة كورونا و ما بعدها ؟
- ما أهم واجبات الصحفي في ما يخص التصدي للأخبار الزائفة، في عالم رقمي وبائي سريعه التغير ؟
- كيف يمكن أن يدافع الجسم الصحفي عن المزيد من الحق في التعبير و حرية الضمير في عالم يعصف به وباء المعلومات ؟
ما زلنا نذكر أنه في الاسابيع الأولى لانتشار جائحة كورونا (ربيع 2020)، اعتقلت السلطات المغربية شيخا سلفيا يدعى (أبو النعيم) بعيد ظهوره في فيديو موضوع على السوشيال ميديا، و هو يحرض على الكراهية، و تم تأويل خطابه على أنه يؤسس لافعال اجرامية تنطوي على المس بالنظام العام، علاوة على تبخيس جهود السلطات العمومية المغربية في التصدي للوباء.
لا زلنا نذكر أيضا أنه خلال الاسابيع الأولى لظهور وباء كورونا، تبنى عدد من المنابر الإعلامية في العالم نظريات المؤامرة حول جذور الفيروس و علاقته بمختبرات السلاح البيولوجي الصيني أو الأمريكي، الى جانب النظرية الموازية المدافعة عن فكرة عدم وجود الفيروس.
ماذا نستنتج من هذه الأفكار ؟
ان جميع نظريات المؤامرة تتغذى من نمط في التفكير و فلسفة في الهدم تسيطر عليهما الظلامية و الشعبوية و الرغبة في دغدغة عاطفة الجماهير، على حساب التفكير العقلاني الهادئ و البناء.
ان نظريات المؤامرة بشتى أنواعها تكرس بقوة لثقافة القطيع، و من حق الصحفي، بل من واجبه الأخلاقي أن لا يكون جزءاً من القطيع العالمي.
ان السلطات في الأنظمة التي لم تنضج بالشكل الكافي على مستوى التجربة الديمقراطية، تميل بشكل عام الى عرقلة المسار الديمقراطي و ضرب مبدأ الشفافية و حرية التعبير و الضمير.
و لعل وباء كورونا شكل في الأعوام الثلاثة الأخيرة فرصة عظيمة للانظمة الشمولية في العالم، لكي تضاعف من تسلطها لفرض و استدامة حالة الطوارئ و محاصرة الحريات (بما فيها حريات التعبير و التنقل و الجولان).
و بالعودة إلى الموضوع الرئيس لمقالنا و المتعلق بواجبات و حقوق الصحفي في عالم ما بعد الوباء، نطرح السؤال : كيف يمكن للصحفي و جمهوره من القراء / المشاهدين أن يتجنبوا الوقوع في فخ الأخبار الكاذبة ؟
في هذا السياق، نشرت جامعة نيوجيرسي في الشهور الأخيرة دراسة هامة مؤداها أن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مطالبون بمعرفة أن الأخبار الكاذبة من أكثر المواد و اسرعها انتشارا، كما أنها تنال في زمن قياسي عددا هائلا من المتابعات، التي تصل أحيانا إلى الملايين.
في السياق ذاته، يجب أن لا ينسى المتلقي أن حضوره المستمر على منصة إعلامية معينة من شأنه تقليص زاوية نظره و تضييق فهمه السليم للمواضيع المستجدة، و بذلك يصبح ضحية للقصص الكاذبة.
ان من مسؤوليات الصحفي اذا تدقيق المحتوى المنشور. صحيح أن المتلقي له كامل الحرية في اقتفاء أثر الأخبار الكاذبة، لأن الفضاء المفتوح للانترنيت يتيح هذه المساحة الهائلة من الحرية، لكن الواجب الأول للصحفي هو تربية المتلقي على الممارسة الصحيحة لهذه الحرية، مع دعوته الى التحلي بالحكمة و روح المسؤولية قبل مشاركة أي خبر من الأخبار على مختلف المنصات الرقمية.
إن المسألة أعمق من ذلك؛ فحين نكتشف خبرا كاذبا أو قصة مفبركة، و نمتنع عن نشرها، فإننا نساعد الآخرين بشكل مباشر على تحصين العقل من كل ما هو زائف و على اكتساب المعرفة. لذلك فإن جمهور الصحفيين مطالبون بالعمل الجماعي و المشترك في سبيل وقف نزيف الأخبار الكاذبة.
ان مكافحة وباء المعلومات مسؤولية مشتركة. و لن نبالغ حين نؤكد أن الوباء الحقيقي ليس هو كورونا لأن هذا الأخير مرض عابر قد تحكمت في اخطاره و انتشاره أغلب دول العالم…
ان الوباء الخطير و الحقيقي هو وباء المعلومات.
و يصف الخبراء وباء المعلومات بأنه فائض من البيانات يحمل بين تلافيفه شائعات و اخبارا مزيفة و نظريات المظلومية و المؤامرة التي تشوش الوعي الجماعي للافراد و الشعوب، و لعل الكثير من المعلومات الخاطئة شديدة الضرر و أحياناً تكون قاتلة، و تؤدي الى اصابات و وفيات كان من الممكن تجنبها.
و في السياق الوبائي الحالي (كوفيد 19)، نورد عددا من أمثلة المعلومات الخاطئة / المضللة التي تم تداولها على نطاق واسع، على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة :
– استهلاك الكحول عالي التركيز يمكن أن يطهر الجسم و يقتل فيروس كورونا (بسبب هذه المعلومة الخاطئة توفي ما يناهز 800 شخص، في حين نقل قرابة 6000 شخص الى المستشفى، و أصيب أكثر من 60 شخص بالعمى التام بعد تناول الميثانول كعلاج لفيروس كورونا،
– في الهند، في الاسابيع الاولى لتفشي الوباء، تناول العديد من ضحايا كورونا كميات هائلة من الثوم أو الفيتامينات و رشوا الكلور في كل انحاء الجسم، ما افرز عواقب صحية خطيرة على صحة هؤلاء،
– علاج كورونا ممكن و سهل باستخدام مزيج من الليمون و القرنفل و الثوم !
دائما في السياق الوبائي الحالي، نعترف أن جوهر المشكل لدى الصحفيين في 2022 و في أفق الأعوام القادمة هو التصدي للمعلومات المضللة، التي بات ينتج منها على الشابكة عدد ضخم يقدر بالملايين، و التحدي الأكبر يتمثل في تداول المعلومات ذات المصدر الطبي و العلمي الموثوق.
إن التكاثر اللامحدود للمعلومات المضللة في مختلف المنصات الرقمية جعلنا نعيش جميعاً أزمة مزدوجة : اللايقين، و أزمة الحرية.
إن الحرية لا تنفع دائماً.
إن الحرية دون المسؤولية الأخلاقية تنتج لنا قطعانا من الكائنات المضرة و السائبة.
هذا هو لب المشكل.
و بناء على ذلك فإن المسؤولية العظمى للحكومات و وكالات الأنباء و منصات السوشيال ميديا و الجماهير المستنيرة، تتجلى في الرفع من منسوب اليقظة و الوعي الجماعي مع ضرورة التسلح بالمنهج العلمي في قراءة و تمحيص الأخبار قبل تداولها و مشاركتها.
و لعل المسؤولية الدقيقة لصحفيي عالم الوباء و ما بعده هي أن يعتمروا قبعة المرشد و الاخصائي النفسي لاخراج قطاع واسع من مستهلكي المعلومات من حالة الخوف التي تعصف بهم في الزمكان الوبائي و ما بعده…
انها حرب ضروس لا تبقي و لا تذر… ان مسؤولية الجميع في هذه الحرب المتقدة هي مكافحة الوباء المعلوماتي.
نريد أن نضيف الآن فكرة في منتهى الأهمية : جذور الوباء المعلوماتي قديمة جداً، و لم تظهر مع كورونا، بل هي ترجع للعصور الوسطى، و لكن وقتذاك – دعونا نوضح- لم تكن ثمة شبكة عنكبوتية و لا منصات رقمية و لا سوشيال ميديا، لجعل العالم أكثر عولمة، لذلك كان وباء المعلومات ينتشر على رقعة جغرافية محدودة و ضيقة.
ان محاصرة المعلومات المضللة في زمن العولمة العابرة للأزمنة و الأمكنة، ترهق كثيرا المؤسسات الرسمية و الإعلامية، فمعدلات الناس التي تتفاعل مع هذه المعلومات هائلة، و تقاس أحياناً بالملايير.
و هنا، يظل التحدي الأول و للصحفي و جمهوره من المتابعين، هو الإجابة الشافية عن هذا السؤال الحاسم :
كيف ادقق المحتوى المنشور حول الوباء او خلافه من المواضيع / الأزمات، في عالم تهيمن عليه مجموعات الدردشة على الواتساب و تنصب نفسها كمصدر موثوق للمعلومة الصحيحة ؟
و ثمة سؤال آخر يمكن أن يطرح :
كيف نطمئن الناس و نخلصهم من الخوف المتولد تلقائيا كل يوم جراء قراءة الرسائل الملغومة و الأخبار الزائفة حول الأوبئة و الحروب و ما سواها من الأزمات… ؟
*أستاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط