يجبُ على كلّ من يودّ أن يتعلم معنى جزالة اللفظِ ومتانة المعنى أن يقرأ القليلَ مما خطّتهُ يد الرّافعي والمنفلوطي والعقّادِ. فهم، ولا ريب، حصنُ اللغةِ وصرحها العالي. ويجب على كلّ من يودّ أن يتذوّق جماليّة اللّفظ السّلس واللغة العالية والمعنى النّافذ أن يقرأ لطه حسين و توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.

وإذا أراد القارئ أن يتأكّد أنّ هناك أدباءٌ في القرن الواحد والعشرين يكتبون بلغةٍ فحول الأدبِ القدامى مع ما يتميّزُ به إنتاجهم الأدبيّ من عمقٍ تاريخيّ وفلسفيّّ يحتاجُ نفساً طويلاً وحسّا أدبيّاً متّقداً وعينا ثاقبة لقراءتهِ ومحاولة استيعابِ عوالمهِ الكثيرة، فعليهِ أنْ يقرأ لصفوةٍ الكُتّاب المغاربة.
كلّ هؤلاء الأدباءُ، لغتهم لها عذوبةٌ على اللّسان ولذاذة في السّمعِ، فضلاً عن الموضوعات التي تتناولها كتاباتهم والتي تهمّ الإنسان وعلاقته بالحضارة والتاريخ والسياسة والوطن والقبيلة وصراعه المُستَميت مع الماضي ورغبته الجامحة في صناعة الأمجاد.
للأسف، هناك بعض “الكتاب” الشباب يريدونَ أنْ يصنعوا مجداً ادبيّاً بالشّغفِ وحده. العجيب في أمرهم أنّهم يريدون أن يكتبوا وهم لم يقرؤوا بعدُ شيئا. وإذا أردنا تحرّي الموضوعية سنقول إنّهم قرأوا ” أنتيخريستوس”.

بين ليلةٍ وضحاها، كتبوا “رواياتٍ” أبطالها وحوش رُعبٍ. من أوّل صفحة إلى آخر صفحةٍ، لا تجد لا حبكة روائية ولا موضوعاتٍ خفيّة يمكن استجلاء خَفايَاها عن طريق التأمل في المضمون وتفكيكِ المُضمرِ ونزعِ اللّثامِ عن السطور لقراءة المعنى وما وراء المعنى. لا يوجدُ أيّ شيء من هذا. أضف إلى ذلك اللغة الهجينة والأسلوب المثقوب الذي يعجز عن حملِ أيّ معنىً مبتكر.
أرى أنّ الشهرة التي حظيت بها مثل هذه” الكتابات” مردّها أنّ معظم القرّاء الذين أعجبُوا بها وجدوا فيها جواباً خياليّا على أسئلتهم الواقعيّة المُزعجة وعشقُوا ما تقدّمه لهم من قوى خارقة ومُرعبة تتماشى ربما وما يحسّون به من ضعفٍ في محيطهم المُجتمعي، أو ربما وجدوا فيها ملاذاً يأوي خيباتهم ويداوي أثر هزائم يتملّصون من مواجهتها.
مثل هؤلاء القراء سيجدون صعوبة كبيرة إذا ما حاولوا قراءة الأدب الواقعي مثلاً، لأنّه ادبٌ عظيم القدرِ ، لكنه شائكٌ لا يجاملُ العاطفةَ، بل إنّه يُرغمُها على رؤية واقع الإنسان المليء بالتّناقضات والفظائع والأهوال وكذا بالقيّم الروحية والجمالية. إذا كان هؤلاء يظنون أنّ ما يكتبونه يندرج ضمن أدب ” الفنتازيا” ، فيجب أن يعلموا أن هذا الصنف من الكتابة له ضوابطه ومرتكزاته. الحقيقة أنّ ما يكتبونه مجرّد قصص رُعبٍ سمجةٍ يُسمّونها زوراً وبُهتاناً” روايات”، ويسمّي ” أصحابها أنفسهم بلا استحياءٍ” روائيّين” !
فعلاً، إذا لم تستحِ فاكتبْ ما شئتَ.