واجهت الحكومة المغربية في البداية احتجاجات شباب “جيل زِد” بالقمع والاعتقالات في الشارع العام، محاولةً إخماد موجة الغضب الاجتماعي عبر المقاربة الأمنية. غير أن إصرار الشباب على مواصلة التعبير السلمي عن مطالبهم، من خلال الوقفات والمسيرات، فرض واقعًا جديدًا على الدولة، دفعها إلى التراجع نسبيًا والإعلان عن استعدادها لفتح باب الحوار.
لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل تحتاج الحكومة أصلًا إلى الحوار كي تبدأ الإصلاح، وهي التي تعرف تمامًا مكامن الخلل وتملك مفاتيح القرار؟ فالمطالب واضحة وضوح الشمس: تعليم جيد، صحة متاحة، ومحاربة الفساد.
لا يختلف اثنان أن قطاع الصحة يعيش حالة انهيار مستمر منذ عقود. المستشفيات العمومية تعاني من خصاص في الأدوية والتجهيزات، والطواقم الطبية منهكة، فيما تحوّل العلاج إلى امتياز طبقي أكثر منه حقًا دستوريًا.
الحلول ليست لغزًا، بل هي أمام أنظار الجميع:
- إقالة المسؤولين الفاشلين الذين عجزوا عن إدارة الوزارة.
- تجهيز المستشفيات العمومية ببرامج طوارئ عاجلة.
- توظيف استثنائي للأطباء والممرضين وتحفيز الكفاءات على البقاء في المغرب.
- رقابة صارمة على الصفقات والميزانيات وربط المسؤولية بالمحاسبة.
الحكومة لا تحتاج إلى وسيط كي تدرك أن صحة المغاربة لا تحتمل مزيدًا من التسويف.
إذا كان قطاع الصحة مريضًا، فإن التعليم هو المستقبل المهدور. لعقود طويلة، صرفت الدولة ملايير الدراهم على إصلاحات كبرى: “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، “المخطط الاستعجالي”، وغيرهما، لكن النتائج كارثية.
والأدهى أن جزءًا من هذه الإصلاحات ارتبط بالفساد والهدر، خصوصًا خلال مرحلة الوزير السابق أحمد أخشيشن، حيث تحولت المشاريع إلى صفقات غامضة وبرامج ورقية لم تترك أي أثر سوى في تقارير الحسابات.
اليوم، الإصلاح الحقيقي لا يحتمل تكرار الأخطاء. المطلوب:
- إعادة هيكلة وزارة التربية الوطنية على أساس الكفاءة والنتائج.
- محاسبة المسؤولين الذين ضيعوا المال العام في مشاريع فاشلة.
- رفع جودة تكوين الأساتذة باعتبارهم العمود الفقري لأي إصلاح.
- إشراك المجتمع المدني والأسر في تقييم وتتبع البرامج، لضمان الشفافية والمساءلة.
إنقاذ المدرسة العمومية ليس رفاهية، بل شرط لبقاء دولة عادلة.
لا معنى للحديث عن إصلاح الصحة أو التعليم دون مواجهة جذر الداء: الفساد.
لقد تحوّل الفساد إلى شبكة مصالح متغلغلة في الإدارات والصفقات العمومية، تجعل أي إصلاح رهينة توازنات غير معلنة. شباب “جيل زِد” يرفع شعارًا واضحًا: لا مستقبل مع الإفلات من العقاب.
هنا يتعين على الحكومة أن تثبت جديتها عبر:
- فتح الملفات الثقيلة المعروفة للرأي العام.
- تفعيل القضاء والمحاسبة بعيدًا عن الانتقائية.
- إعلان قطيعة مع سياسة الإفلات من العقاب التي أنهكت ثقة المواطن في الدولة.
قد يكون الحوار مع الشباب مهمًا لتهدئة الأوضاع وإشراكهم في النقاش، لكنه ليس شرطًا للإصلاح. الأجندة معروفة: إصلاح الصحة، إصلاح التعليم، محاربة الفساد. ما ينقص هو الإرادة السياسية لاتخاذ قرارات جريئة تبدأ بالإقالات والمحاسبة، وتنتهي ببناء ثقة جديدة بين المجتمع والدولة.
جيل “زِد” لا يطلب المستحيل، بل يطالب بما هو حق دستوري أصيل: كرامة، مساواة، وعدالة اجتماعية. والحكومة إن أرادت أن تكون في مستوى اللحظة، فعليها أن تنتقل من التشخيص والخطاب إلى الفعل والإصلاح.
إنها فرصة تاريخية: إما أن تكون بداية تحول سياسي واجتماعي حقيقي، أو حلقة جديدة في مسلسل الإصلاحات الفاشلة.















