شكلت جولة القتال الأخيرة بين الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل، وقبلها أحداث المسجد الأقصى وحي “الشيخ جراح” بالقدس، اختبارا عمليا لمواقف الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل خلال العام الماضي.
ووقعت أربع دول، الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، اتفاقيات لإقامة علاقات “طبيعية” مع إسرائيل بوساطة أمريكية في العام 2020 في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
وأدانت الدول الأربع ببيانات “شديدة” الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى تهجير سكان حي “الشيخ جراح” وانتهاكات القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المرابطين في المسجد الأقصى.
وعكست هذه البيانات حساسية ما يحدث في القدس والإضرار بالحقوق الثابتة للفلسطينيين ومكانة المسجد الأقصى، والأهم من ذلك إظهار التأييد للفلسطينيين والتعاطف معهم لتفادي الحرج أمام شعوبهم التي اتهمتهم بـ”التخلي عن القضية الفلسطينية”.
لكن بيانات الدول الأربع خفّت حدتها بعد دخول قطاع غزة على خط الأحداث، والدخول في جولة قتال جديدة كان عنوانها الأبرز إطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات الإسرائيلية.
تقليديا، تدين الحكومات العربية الانتهاكات الإسرائيلية في بيانات ومؤتمرات دون اتخاذ إجراءات عملية ضد إسرائيل أو الضغط على المجتمع الدولي والدول العربية التي تربطها علاقات مع إسرائيل لوقف تلك الانتهاكات.
ونددت الإمارات في 8 مايو/ أيار “بشدة” بعمليات الإخلاء المحتملة لسكان “الشيخ جراح” واقتحام السلطات الإسرائيلية للمسجد الأقصى المبارك، وطالبت تل أبيب بتوفير الحماية اللازمة للمدنيين الفلسطينيين وحقهم في ممارسة الشعائر الدينية، وحماية حرية العبادة لجميع المؤمنين من مسلمين ومسيحيين ويهود، وكذلك وقف أي ممارسات تنتهك حرمة المسجد الأقصى المبارك.
كما أكدت أبو ظبي على “ضرورة الحفاظ على الهوية التاريخية للقدس المحتلة”، وفق ما ورد في بيان لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية خليفة شاهين المرر.
ومع ثبات الموقف السعودي من القضية الفلسطينية وتمسك الرياض بخيار السلام بين فلسطين والعرب من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، عادت لتأكيد موقفها المبني على مبادرة السلام العربية التي طرحتها في قمة بيروت العربية عام 2002، أو ما يعرف باسم “حل الدولتين” الذي يقضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مقابل تطبيع كامل للعلاقات العربية مع إسرائيل.
ورفضت وزارة الخارجية السعودية في بيان، ما وصفته بخطط وإجراءات إسرائيل لإخلاء منازل فلسطينية بالقدس وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، ونددت بأي إجراءات إسرائيلية أحاديَة الجانب، ولأي انتهاكات لقرارات الشرعية.
وقالت الوزارة في بيان، إن السعودية “تقف مع الفلسطينيين” وتدعو لإلغاء جميع أشكال الاحتلال في فلسطين التي لن تحل مشكلتها إلا عندما يكون للفلسطينيين دولة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وشدد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز على أن بلاده التي تدين بشدة إجراءات تل أبيب في القدس وأعمال العنف الإسرائيلية، وأنها تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني.
ونظمت السعودية التي تستضيف المقر الدائم لمنظمة التعاون الإسلامي، مؤتمرا افتراضيا في 16 مايو شارك فيه وزراء خارجية وممثلو 57 عضوا، وصفوا الهجمات الإسرائيلية بأنها “اعتداءات وحشية” على الشعب الفلسطيني وطالبوا بالوقف الفوري للهجمات على المدنيين التي “تنتهك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة”.
وعكست وسائل الإعلام المملوكة للدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، والإعلام السعودي أيضا، ازدواجية في التعاطي مع ما جرى في فلسطين بين التأييد والتضامن مع الفلسطينيين في القدس، والصمت عما جرى في قطاع غزة، وتحميل حركة “حماس” مسؤولية الدمار والخراب الذي أحدثته المواجهات مع إسرائيل.
وبعد أن انتقلت الاشتباكات بين المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين في القدس إلى حالة حرب بين الفصائل في غزة وإسرائيل، اتخذت عدة دول عربية، ومنها السعودية، موقفا يرى مراقبون أنه يساوي بين المعتدي والمُعتدى عليه، ويحمّل الطرفين المسؤولية معا، حيث تجنّب الإشارة إلى إسرائيل أو إلى الفلسطينيين بشكل صريح.
ففي كلمته أمام الأمم المتحدة في 21 مايو، خلال الاجتماع الطارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حذّر الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي من أن “العنف لا يجلب إلا العنف، ودوامة العنف لا تجلب إلا الخراب والدمار وتأجيج استراتيجية الصراع”.
كما استنكر “بقوة كل استهداف للمدنيين”، وكل ممارسات أحادية واستفزازية وكل إذكاء للكراهية والتطرف والعنف من “أي جهة كانت”.
وتتبنى العديد من الدول العربية، بما فيها السعودية، وكذلك الدول التي لها علاقات مع إسرائيل، موقفا مشتركا مناهضًا لحركات الإسلام السياسي منذ تفجر ثورات الربيع العربي عام 2011.
وتمثل حركة “حماس” التي تصدرت واجهة التصعيد العسكري الأخير، تنظيما محسوبا على حركات الإسلام السياسي ولها علاقات متينة مع إيران التي تشهد علاقاتها توترا مع معظم الدول العربية والخليجية، السعودية بشكل خاص.
ويرجع هذا التوتر إلى تراكمات من الخلافات منذ مطلع عام 2016 واعدام السلطات السعودية لرجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر وقيام محتجين إيرانيين بالاعتداء على سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد، والتي نتج عنها قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما بشكل كامل، بالإضافة إلى دعم إيران لجماعة الحوثي في اليمن وإمدادها بالصواريخ والطائرات المسيرة التي تستهدف المملكة.
لذلك، ليس مقبولًا لدى تلك الدول أن تحقق “حماس” أي “انتصارات” على الاسرائيليين تزيد من شعبيتها في الأوساط العربية، في ذات الوقت ترفض جميع الدول المعنية بمناهضة حركات الإسلام السياسي استمرار الحرب وإلحاق المزيد من الدمار في قطاع غزة بما يفرض على معظمها المساهمة بشكل ما في إعادة إعمارها.
وتعرضت حركة “حماس” ومواجهاتها مع إسرائيل للكثير من الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي من مواطني دول عربية وخليجية، وتحميل الحركة مسؤولية معاناة سكان غزة جراء الحرب التي يصفونها بأنها تنفيذ لسياسات “إيرانية” وتحقيق لمكاسب لقيادات الحركة الذين ظهر عدد منهم في الدوحة أثناء المواجهات.
وتثير الاعتداءات الإسرائيلية على غزة واستمرار الانتهاكات ضد الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، تساؤلات حول جدوى اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية التي طالما تحدث مسؤولوها عن إمكانية تخفيف العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
كما تثار تساؤلات حول ما إذا كانت دول عربية أخرى ستعقد اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، مثل السعودية التي طالما نوّهت الإدارة الأمريكية السابقة إلى احتمالات اقتراب إعلان تطبيعها مع إسرائيل.
ويعتقد مراقبون أن كلا من الإمارات والبحرين على الأقل، لم يوقعا اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل دون موافقة “ضمنية” مسبقة، إن لم يكن بتشجيع من المملكة العربية السعودية.
لكن حكومة الرياض التي تدرك حجم تأييد وتعاطف المجتمع السعودي مع القضية الفلسطينية وحرمة المسجد الأقصى، لا يبدو أنها ستمضي قدما باتجاه التطبيع مع إسرائيل في المدى المنظور، أو على الأقل توصل المجتمع الدولي إلى تسوية سياسية لإحلال السلام في المنطقة وفق مضمون مبادرة السلام العربية.
لم تؤد اتفاقيات التطبيع إلى تحقيق ما أعلنت عنه الدول الأربع، الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، بأن مثل هذه الاتفاقيات ستكون ضمانة لوقف الاستيطان وتعليق الضم الرسمي للأراضي الفلسطينية، إذ أن ما يجري في “الشيخ جراح” هو مخطط استيطاني إسرائيلي لمصادرة أراضي الفلسطينيين وبناء مستوطنة جديدة تضم 200 وحدة سكنية للمستوطنين الإسرائيليين.
في مقابل ذلك، فإن التصعيد العسكري الأخير، واحتمالات اندلاع موجة جديدة من القتال طالما لم تلتزم إسرائيل بوقف مخططها الاستيطاني في “الشيخ جراح” واستمرار الانتهاكات ضد الفلسطينيين في القدس والمسجد الأقصى، سوف لن يؤثر على خيار التطبيع للدول الأربع التي تعتقد أن إقامة علاقات عربية واسعة مع إسرائيل تمثل الخيار السياسي الأمثل لحل القضية الفلسطينية.